قيس حسن من السيرة الذاتيَّة إلى اقتفاء أثر الهامشي

ثقافة 2022/06/07
...

 حمزة عليوي 
 
أكثر من سبب يدعوني لامتداح «صنيع» قيس حسن. في طليعتها، إنّه يُحسن، دائما، اختيار الخطاب اللساني «الأدبي، ربما، المناسب لـ (مرويتـ)ـه، وهو هنا السيرة، «الذاتية» كما في كتابه الأول «تحت سماء الشيطان»، أو الموضوعيَّة، غير الشخصيَّة كما في كتابه الأخير «فاروق وهالينا: سنوات أيام المسرَّة وسنوات الحرب»، وهو ذاته شأن كتابه الثاني «جبنة في علبة كبريت». في الكتب الثلاثة ثمة احتفاء غير خاف بالقصة «السيرة» لكن هذا الاحتفاء لا يصل إلى حد «الادّعاء» بكتابة «رواية» كما حدث مع كثيرين اعتقدوا أنَّ حكاياتهم الشخصيَّة يمكن أن تجعلهم كُتَّاب رواية. هذه مأثرة تسحب لصالح الكاتب «قيس حسن» مثلما نوَّه لذلك الراحل «أحمد المهنا» في تقديمه لكتاب «حسن» الأول «تحت سماء الشيطان». أحسب أنَّها مسألة مهمة، تُفيد أن الكاتب، هنا، يعرف حدود موضوعه، مثلما يعرف قدراته وإمكانياته. ولا يعني هذا أنَّ كاتب الرواية يملك قدرات أكثر، أو أن مشروعه أهم وأنفع، إنّما يُفيد أن الكاتب صاحب مشروع يعرف قصصه جيدا ويحاول الإحاطة والتمكُّن من إمكانات خطاب السيرة. وليس هذا بالقليل؛ ففي ثقافات أخرى، أكثر تنظيما، تتكفل مؤسسات «أدبيَّة» أو «صحافيَّة» برسم خرائط وحدود مستنبطة من طبيعة الخطابات «الأدبيَّة» أو «اللسانيَّة» عامة ويجري، من ثم، تشجيع هذا «الكاتب» أو «غيره» للكتابة في هذا المجال من دون غيره. فهناك «ناقد» أدبي أو ثقافي، وهناك «كاتب» مقالة، وهناك قاص أو كاتب رواية، مثلما هناك «شاعر»، وقد نجد من يبرع بهذه المجالات كلها، وهذا قليل. وفي حالتنا ثمة «فوضى» كتابيَّة «أدبيَّة»، فوضى لا حدود لها تصل، أحيانا، حد تحويل كتاب مقالات ذات صياغات سرديَّة إلى «رواية»؛ وكأنَّ الأمر محض اتفاق بين الكاتب وناشره، وعلى القارئ أن يتفهم قناعات ورغبات الطرفين. لكن الأمر يختلف مع نصوص قيس حسن السيريَّة، إذ إنّنا نشهد إصرار الكاتب على اقتفاء أثر شخصيات لا «أثر» اجتماعيا أو سياسيا أو حتى ثقافيا مؤثرا يُحسب لها. إنّهم «أفراد» هامشيون حتى على صعيد حياتهم الشخصيَّة، أو حياة من يتصلون بهم.  
من المهم، بل والضروري، أن نقرأ «سير» قيس حسن ضمن «ثقافتنا» ذات التقاليد السرديَّة التي تحتفي كثيرا بالبطل، صانع الحدث الرئيس، السياسي، غالبا. وهي لا تبدي اهتماماً كبيراً بالهامشي. سرديَّة البطل المؤثر تصنع السير الصاخبة ذات الحكايات والأحداث المهمة والمؤثرة. ضمن هذا السياق السردي يكتب «حسن» سيره، وهي تحتفي بالهامشي صاحب الحكاية «البسيطة» الخالية من الصياغات السرديَّة «الصاخبة». نتحدث عن سير «عبد السادة» و»كريم» و»شناوه»، مثلما نتحدث عن «فاروق» الكردي الفيلي وصاحبته هالينا الأجنبية وغيرهم مثل «عبد الله» أو «انجي». أغلب القصص تعود لأشخاص ذهبوا «ضحية» عسف السياسة في العراق. فهل فكر «قيس حسن» باستبدال سرديّة «الضحية» بسرديّة «البطل»؟ أظن أنَّ هذا الاستبدال هو جوهر «التأليف» السيري. وقد سبق «حسن» كُتَّاب عراقيون إلى هذا الاستبدال. أتذكّر، هنا، سِير كنعان مكيَّة، كما أتذكّر سِير آخرين. ومن المهم، كذلك، أن نعرف، بل ونتذكّر جيدا، أنَّ كتابة سيرة العادي أو «الهامشي»، مما تقع قصته خارج نطاق سرديَّة البطل، لا تنهض على «تقاليد» كتابيَّة/ سرديَّة على مستوى انتاج النص السيري. وقد نذهب بعيدا فـ «ندّعي» أن مجتمعنا ليس مما يشجع على كتابة اليوميَّات، لا سيّما في عهود سياسيَّة قريبة تحولت حياة الناس إلى قصص سياسيّة جاهزة، وأي قصة «يوميَّة» لا تنسجم القصة العامة قد تؤدي بصاحبها إلى الهلاك. في كتابه الأخير «فاروق وهالينا: أيام المسرّة وسنوات الحرب» مثلا، يواصل «حسن» استثمار موقع «المدوِّن» لسِير عراقيين عاشوا على هامش الحياة في بلادنا الصاخبة. أفكر، هنا، بالمفارقة التي لا يخفيها أو يتنكّر لها العنوان: سيرة فاروق «و» هالينا. فهل المقصود هنا هو كتابة «سيرة» واحدة تجمع الاثنين معا، أم أن السيرة بينهما وكأننا إزاء سيرتين؟ في الحقيقة،  
إنَّ النصَّ هو «سيرة» مقصودة 
وخاصة بـ «فاروق» وحده؛ إذ لا تبدأ قصة «هالينا» سوى في مرحلة متأخرة من قصة «سيرة» فاروق. وقصة هالينا لا تمثل سوى «جزئية» بسيطة من قصة فاروق. هذا التأويل يفترضه، ابتداءً، العنوان بتمييزه بين «أيام» المسرّة و»سنوات» الحرب؛ فالقليل، شأن المسرّة، يمثّل «هالينا»، بينما الكثير «سنوات» هي مادة السيرة وجوهرها. ولكن من هو فاروق؟، لا يشغل الكاتب نفسه بتسويغ كتابة السيرة، ولا يبدو مهتما بتفسير سبب اختيار هذا الشخص من دون غيره، إذ لا يختلف «موقع» فاروق عن أشخاص السرد في كتابه السيري الثاني «جبنة في علبة كبريت». ثمة خصوصية لموضوع السيرة وشخوصها تنبثق من موقع شخصيات السرد وتضادها مع السلطة، أو حتى مع محيطها الثقافي. من يضطهد «عبد السادة» ورفيقيه، مثلا، هي السلطة السياسيَّة، لكنَّها كذلك الممثل الديني «الحامي» لهم. كذلك حال سيرة فاروق «المختلف»، فهو «الكردي» في سياق عربي، وهو «الشيعي» المختلف في سياقه
القومي.