سقوط آخر قرية لـــ {داعش» وانهيار «دولة الخلافة»

قضايا عربية ودولية 2019/03/24
...

روكميني كاليماتشي/عن صحيفة نيويورك تايمز  ترجمة : انيس الصفار                                      
 
شهد يوم السبت الماضي انتهاء العملية العسكرية التي استغرقت أربع سنوات لطرد “داعش” من أراضي العراق وسوريا، وذلك باستعادة آخر قرية كانت الجماعة الارهابية تتحصن فيها وبذلك زال الكيان المتشح بالتعصب الديني الذي كان يبسط وجوده على اراضي دولتين. في قرية باغوز في سوريا، التي لا تتعدى مساحتها 4 كيلومترات مربعة، خاضت البقايا المحاصرة من ارهابيي “الخلافة” حرباً دفاعية عنيفة مع القوات التي تدعمها أميركا طيلة أشهر لمنعها من التقدم. تلك المجاميع المتبقية كانت تفجر السيارات المفخخة وتلقي بالقنابل من طائرات مسيرة ويتسلل انتحاريوها المحملون بالمواد المتفجرة تحت ستار الظلام عبر خطوط الجبهة لمهاجمة مقرات التحالف المدعوم أميركياً. خلال الاسابيع الاخيرة أخذت عوائل المتشددين تفر من البلدة طلباً للنجاة وتدفقت زوجاتهم المتشحات بالسواد الى الصحراء بعشرات الالوف، بعضهن كن يهتفن بشعارات “داعش” متحديات ويقذفن مراسلي الوكالات بحفنات التراب.
أخيراً، وبعد حملة من المعارك الطاحنة، انتزعت آخر اشبار من الارض كانت تتشبث بها ما سميت يوماً “الدولة الاسلامية” أو “داعش”.
يقول “كينو جبرائيل” المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية، وهي الجماعة المسلحة التي كانت تتولى قيادة العملية بدعم أميركي: “إنها لحظة مشهودة، لا بالنسبة لنا فقط بل للعالم أجمع، ولكننا لا نستطيع القول أن داعش قد انتهت. لا شك ان وجودها العسكري على الارض قد انتهى، ولكن تهديدها سيبقى في كل مكان من العالم.”
قبل أربع سنوات، إبان ذروة جبروتها، كانت “دولة داعش” تبسط سيطرتها على رقعة من الارض تعادل مساحة بريطانيا متحكمة بحياة ما يقارب 12 مليون انسان. استولى هذا التنظيم على مراكز سكانية كبرى من بينها مدينة الموصل ثاني اكبر مدن العراق، ثم امتد سلطانه شرقاً الى منطقة سهل نينوى في العراق، وهي منطقة ورد اسمها في الانجيل. هناك كانت العصابة تستخدم جدران الكنائس الأثرية القديمة لتمارين الرماية واصابة الاهداف. بعد ذلك تمددت جنوباً حتى بلغت اطلال مدينة تدمر السورية لتجعل من اعمدتها البديعة خلفية لمشاهد قطع الرؤوس البشعة التي كانت تصور فيدوياً وتبث عبر الشبكة.
في غضون ذلك سطت الجماعة على اراض تعادل ما نسبته 75 بالمئة من حقول القطن في سوريا و40 بالمئة من حقول الحنطة في العراق واكثر من 50 بالمئة من حقول الشعير فيه، بالاضافة الى السدود الكهرومائية ومناجم الفوسفات وحقول النفط.
ومع أن التنظيم لا يزال على قيد الحياة على هيئة حركة تمرد مبعثرة لا يزال يأتمر بأمرها آلاف الاتباع في افغانستان والفلبين فإن خسارة الأرض التي كانت في يدها قد الحقت بها ضربة قاصمة، لأن “داعش” بذلك فقدت الانموذج البين والملموس على ما كانت تصوره للاخرين على انه “دولة خلافة” على نطاق عالمي ومنارة مشعة تجتذب عشرات الاف الارهابيين المتطوعين من شتى انحاء العالم وكابوساً مشؤوماً يخيف الاخرين.
المساحات الشاسعة التي كانت تمسك بها العصابة سمحت لها بفعل ما لم تقدر عليه اية جماعة ارهابية اخرى. فعن طريق جباية الضرائب من ملايين الناس الذين وقعوا تحت سطوتها واستغلال الموارد الطبيعية كانت “داعش” تجني مليارات الدولارات لتصبح بذلك اغنى منظمة ارهابية، وكانت تستخدم تلك الثروة في تمويل طموحاتها العالمية. فقد أسس هؤلاء المشتددون ماكنة حربهم الخاصة التي شملت انتاج قنابل الهاون بمستوى صناعي ووضع برنامج للطائرات المسيرة يعمل على تحوير التكنولوجيا المتوفرة في السوق العادية وتحويلها الى وسائل لحمل المتفجرات والقنابل، الامر الذي احدث تغييراً في ديناميكيات الصراع، لأن قنابر الهاون كانت تشرى في الماضي من السوق السوداء كما كان التحالف المدعوم أميركياً مسيطراً وحده على الاجواء بلا منازع.
المدن والبلدات التي استولى عليها التنظيم أتاحت له أن يقيم السجون ومعسكرات التدريب ومكاتب إدارية في المراكز المدنية الكثيفة السكان، الأمر الذي أمن له حماية من الضربات الجوية بموجب ضوابط الحرب الدولية.  
بيد أن الدويلة التي اقامتها “داعش”، وحاولت من خلالها أن تتقمص ظاهرياً شكل الدولة التي اسسها النبي محمد (ص) في القرن السابع الميلادي، كانت كفوءة في الجمع بين الوحشية والبيروقراطية المنظمة. فالنساء يجلدن إذا ما بدت منهن ولو مجرد العينين وتقطع لهن وصولات قبض من قبل شرطة الاداب، والمراهقون كانوا يسجنون بسبب ارتكابهم جريمة “الممازحة في أوقات الصلاة” وتصدر بحقهم مذكرات القاء قبض، كما بيعت الوف النساء من اتباع الديانة الايزيدية كرقيق جنس، وكان اغتصابهن حق مصادق عليه من قبل المحكمة بعقد يحمل ختماً رسمياً.
“دولة داعش” اليوم قوة متلاشية وفقاً لأي معيار تقريباً مقارنة بما كانت عليه قبل اربع سنوات، فهي أقل جنداً ولا تكاد تملك من الارض شيئا، كما ان عدد الهجمات التي تنفذها في مختلف انحاء العالم قد هوى على انفه من شاهق.
خلال الاسابيع القليلة الماضية كانت الحياة في باغوز قاتمة بأي مقياس تقاس.
تقول آمي، وهي امرأة كندية لها من العمر 34 عاماً استطاعت الفرار من باغوز مؤخراً ولم تفصح سوى عن اسمها الأول: “سلني متى ذقت البيض آخر مرة؟ سأجيبك أن ذلك كان قبل عام.” تركت آمي عملها كمصممة غرفيك في ولاية ألبرتا ومعها طفليها الصغيرين للالتحاق بزوجها في أرض الخلافة. تمضي آمي قائلة: “لا أتمنى الان سوى العودة الى وطني وتناول اكبر كوب من قهوة تيم هورتونز.” في اشارة الى محل القهوة الكندي الشهير.
بيد ان المتابعين لنشاط الجماعة منذ ان دقت جذورها في العراق في مطلع اعوام ما بعد 2000 يشيرون الى انها رغم خسارة الارض لا تزال اقوى كثيراً اليوم مما كانت عليه يوم عدّت منهزمة في العام 2011، وهو العام الذي انسحبت فيه القوات الاميركية من العراق.
حينها كان عدد المتبقين من عناصر التنظيم يقل عن 700 مقاتل، أما اليوم فيقدر المسؤولون الاميركيون والعراقيون ان الجماعة لا يزال لديها الوف المقاتلين وعشرات الالاف من الاتباع المنتشرين في العراق وسوريا.
كذلك ظهرت علامات ملموسة تدل على ان الجماعة تحاول النهوض من جديد. فخلال الاشهر العشرة التي اعقبت اعلان حيدر العبادي، الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك، تحقيق النصر على العصابة المتشددة في العراق نفذت الجماعة 1271 هجوماً هناك، وفقاً لما يقوله “مايكل نايتس” من معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى.
وخلال الاسابيع التي أعقبت ادعاء الرئيس ترامب تحقيق النصر على ما يسمى “الدولة الاسلامية” في شهر كانون الاول نسب المتشددون لأنفسهم مسؤولية تنفيذ 182 هجوماً على الأقل داخل سوريا أوقعت 620 قتيلاً وجريحاً، وفقاً لتقارير “شارلي ونتر” وهو باحث اقدم في المركز الدولي لدراسة التطرف بكلية كنغز في لندن.
يقول ونتر: “هناك ميل للتسرع في اعلان النصر مبكراً على الجماعات الارهابية. ربما تكون قد اضعفت على المدى القريب ولكن لا يمكن الزعم مطلقاً أنها دحرت.” حتى القادة الذين شاركوا في تحرير باغوز حذروا من ان ذلك التحرير ببساطة هو نهاية مرحلة من مراحل المعركة وبداية أخرى جديدة.
تحرير المدن والبلدات التي كانت تسيطر عليها “داعش” هو الجزء السهل، كما يقول عدنان عفرين احد قادة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أميركياً. يمضي عفرين مستطرداً: “كلما توجهنا الى الخطوط الامامية وجدنا انفسنا نواجههم. نطلق النار عليهم فيردون علينا. نحن هناك نعلم من الذين يواجهوننا ولكن من ورائنا هناك الخلايا النائمة، والمعركة ضد عدو لا تستطيع رؤيته اشق واصعب.”
قد يصف كثيرون سقوط باغوز بأنه نهاية “دولة الخلافة”، لأن مشروع الجماعة الارهابية كان دائماً ذا بعد عالمي ونصف ما يسمونه “ولاياتهم” تقريباً واقع في الخارج. ولكن رغم انتهاء الرقعة التي يسيطرون عليها في العراق وسوريا الى نقطة الصفر فإن وكلاءها في الخارج مستمرون في التنامي، كما يقول الخبراء.
في شهر كانون الثاني اسفر حادثا تفجير متزامنين، ادعى المسؤولية عنهما فرع “داعش” المحلي، عن مقتل 20 شخصاً في الفليبين على الاقل. وفي افغانستان تواصل الجماعة شن الهجمات وقتل الناس رغم القاء الولايات المتحدة في العام 2017 ما اسمته “أم القنابل” على مجمع كهوف كان المتشددون يستخدمونه 
هناك.
العملية العسكرية لاقتلاع “داعش” قد انجزت، ولكن الثمن كان باهظاً. فالجانب الغربي من مدينة الموصل، وكذلك الجزء الاعظم من مدينة الرقّة، ومثلهما العديد من المدن والبلدات التي تحررت خلال تلك العمليات، اضحت خرائب مدمرة. والطريق الذي يقارب طوله 30 كيلومتراً الذي انطلقت منه عمليات اقتلاع “داعش” من آخر اراض تبقت لها داخل سوريا في اواخر شهر ايلول الماضي والممتد بين بلدة هجين وقرية باغوز مشهد لدمار كارثي. كل بناء في هذه المنطقة تقريباً قد دك الى الارض او نخرته القذائف. هناك حفر كبيرة  يتسع بعضها لابتلاع سيارة صهريج، هذه هي المواضع التي اسقطت عليها القنابل من زنة 500 رطل.
يتساءل فيصل وهيب عواد، الذي يبلغ من العمر 42 عاماً ويملك مخبزاً في ذلك المكان: “ما الذي جعلهم يلحقون كل هذا الدمار بهجين؟ هناك كنا نعيش، وحين عدنا وبحثنا لم نعثر على جثة داعشي واحد هناك، لم نجد أية اسلحة أو حتى اطلاقة رصاص واحدة، فكيف يزعمون ان هذا كان معقلاً لداعش؟”
لا تزال سوريا تخوض مستنقع الحرب الاهلية، وما حرب “داعش” إلا واحدة من صراعاتها العديدة. كذلك يبقى مصير الاراضي التي كانت تسيطر عليها الجماعة الارهابية هناك ذات يوم، والتي تعادل ثلث مساحة البلد تقريباً، غير مؤكداً بعد أن وعدت الولايات المتحدة بسحب قواتها من 
هناك.
على جانبي الحدود يعاني المنتصرون وهم في سعيهم لتحقيق العدالة بحق المهزومين. فألوف المقاتلين الدواعش قابعون الان في السجون بينما تحتجز عشرات الالاف من النساء والاطفال في معسكرات مخصصة. معظم الاجانب الذين تدفقوا على “أرض الخلافة” حشوداً مهددون اليوم بأن يبقوا من دون وطن بعد ان لفظتهم بلدانهم الاصلية التي غادروها فراراً في حين تعتبرهم البلدان التي يقيمون فيها اعداء مقاتلين.
خلال الاسابيع الاخيرة ارتفعت اعداد المحتجزين الذين جاؤوا من باغوز منذ شهر شباط الماضي الى 37 ألفاً، وفقاً لتقارير لجنة الانقاذ الدولية. معظم هؤلاء نساء واطفال، ولكنهم جميعاً تقريباً من عوائل عناصر “داعش”، كما يقول المسؤولون. الذين قبلوا منهم بالتحدث الى الصحفيين بقوا يتأرجحون ما بين الاعتراف بالخسائر التي تكبدتها الجماعة والاصرار على ان هذه مجرد خسائر مؤقتة.
تقول دوري أحمد، وهي من تورنتو وتبلغ من العمر 28 عاماً: “أعدادهم في تناقص .. تناقص شديد .. ولكن كثيرا من الناس يأملون بأنهم سيتمكنون من التعافي والعودة ذات يوم.”
هذا النوع من الشعور تكرر على لسان سلام عبد، الذي امضى في كنف الخلافة اربع سنوات ونصف السنة ولم يفكر في الفرار إلا بعد ان هلك بفعل الضربات الجوية 20 فرداً من عائلته.
يقول سلام، من بين لفائف الضمادات التي تغطي وجهه المحترق: “قد تهزم الجماعة في سوريا، ولكنها لن تهزم في كل مكان. ربما لم يبق لهم شيء في سوريا، ولكنهم موجودون في صحارى الانبار. أما في آسيا وافريقيا فلا يزالون 
يقاتلون.”