إن إصلاح التشريعات وتحديثها وتدوينها يمثل مقياسا في تقييم المستوى الحضاري، ويؤشر إلى حسن التنظيم الاجتماعي للدولة ويؤشر إلى درجة الوعي السياسي والقانوني للقابضين على السلطة. ومن المبادئ العامة لدور المشرّع سن السياسات، التي تعكس نوايا جادة للتغيير والإصلاح في شكل قواعد قانونية، لكي يستطيع القانون أن يحدث تغييراً اجتماعيا مقصودا، وذلك بشرط ضمان تنفيذ فعال لهذه القوانين، لأن عجز بعض الأجهزة عن تنفيذ القانون معناه خيبة أمل كبيرة في الدولة وسياستها .
إنَّ أي إجراءات دستورية وتشريعية يتخذها مجلس النواب مهما كانت دقيقة في الإصدار والتحديث والمراجعة، اذا لم تكن تعبر عن ضمير الشعب وتسهم في تغيير حياته نحو الافضل، لا تجد صداها في علو شانه وقيمته لدى
الشعب.
إنَّ تشريع القوانين يمثل صورة حيَّة عن الواقع الانساني المليء بالمتغيرات والتطورات، ويفترض أن يجاري هذا الواقع ويقوده، إلى مستقبل أفضل أكثر عدالة ومساواة وتقدما ومواكبة التطور العالمي في شتى مناحي
الحياة .
مما لاشكَّ فيه أن الاحتلالات واكتشاف النفط في العراق والمنطقة والانقلابات وتغيير الأنظمة السياسية، التي تعاقبت على حكم العراق أثرت في الأوضاع الدستورية والقانونية، وأسوأ ما في الأمر أن هناك قوانين ما زالت منذ تأسيس الدولة العراقية في العهد الملكي عام 1921 استلهمت مفاهيم العهد العثماني والاحتلال البريطاني، وتركت الاثر في القوانين الوطنية، وكذلك الاحتلال الأميركي عام 2003 الذي اصدر قوانين باسم سلطة الائتلاف المؤقتة، مستندة إلى قرار مجلس الامن الدولي رقم 1483 لسنة 2003 وبتوقيع الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، وقد تراوحت هذه القوانين بين أوامر ومذكرات وإشعارات وتعليمات، ولم تراعِ هذه القوانين الصياغة في النظام القانوني العراقي، من تسمية لعنوان القانون وترقيم ونفاذ وصياغة قانونية، ومن الناحية الموضوعية فقد جاءت هذه القوانين بمراكز قانونية وأنشأت هيئات وأوضاعاً قانونية جديدة، كما شرعت جرائم وعقوبات مستحدثة لم يألفها النظام القانوني العراقي، مثل السجن مدى الحياة، كما ورد في الأمر رقم 3 في 13/9/2003 وما زالت نافذة إلى يومنا هذا، وندرج في أدناه بعض هذه الأوامر التي صدرت :
• السيطرة على الأسلحة رقم 3 لسنة 2003.
• هيئة الاتصالات والإعلام رقم 65 لسنة 2004.
• العقوبات رقم 7 لسنة 2003.
• حرية التجمع رقم 19 لسنة 2003.
• المصارف أمر سلطة الائتلاف رقم 40 لسنة 2003.
• إدارة السجون ومرافق احتجاز السجناء رقم 2 لسنة 2003.
إنَّ الأمر يحتاج إلى وقفة جادة لإلغاء ما يستوجب الإلغاء والتعديل، وبما ينسجم مع التشريعات النافذة، من حيث الشكل والمضمون، ومن دون الأضرار بأية حقوق مكتسبة للأفراد والجماعات، ومن باب الحفاظ على وحدة التشريع في النظام القانوني العراقي، خاصة أنها لم تصدر باسم الشعب كما يقتضي في سن القوانين، استنادا إلى المادة 128 من الدستور، وهي محررة بلغة غريبة عن ثقافتنا ومترجمة إلى اللغة العربية، كما أن اتفاقية جنيف لا تجيز للمحتل تغيير التشريعات المحليَّة .
إنَّ تاصيل الأساليب السليمة المعتمدة في تحديث بعض القوانين باتباع منهج علمي حديث، تسير عليه العملية التشريعية في إعداد مشاريع القوانين ومراجعتها والصادرة منذ زمن، يعدُّ مطلبا ضروريا من أجل النهوض بالواقع التشريعي وتجاوز كل المعوقات والحواجز، من أجل وضع تشريعات فعّالة تسهم في التغيير والتحول الديمقراطي .
إنَّ توفير الفضاءات للحوار والتشاور والمشاركة الواسعة وفتح افاق التفاعل والتلاقي في صناعة التشريعات، يسهم في دعم الاستقرار المجتمعي وتعزيز الأمن والبناء القانوني
الرصين .
إن التوازن الدقيق في عملية الثبات والاستقرار وتطوير النصوص التشريعية وتوضيحها واستكمالها مسألة في غاية الاهمية والدقة، وتحتاج إلى مهارات وخبرات طويلة لرجال القانون. إنَّ تشكيل هيئة مختصة للمراجعة والتقييم التشريعي الدوري لقياس مدى اداء وفعالية القوانين، يعدُّ ركيزةً أساسية ومهمة في العمل التشريعي، وهذا ما نفتقده في العراق، أزاء هذه التحولات الكبيرة والهائلة، التي حدثت في العراق، وعدم ترك الأمر إلى اللجان البرلمانية، لعدم وجود الاختصاص الدقيق وضغط العمل اليومي والسياسي وعدم التفرغ لهذه المهمة، كما يتطلب الأمر الأخذ بآراء المحاكم وما استقر عليه القضاء من اجتهادات في كثير من الجوانب وإدخالها في صلب القانون، يعدُّ أيضا استكمالا لجوانب العدالة.
إننا نؤكد وندعو كل وسائل الإعلام إلى إبراز النقاط الأساسية لكل مشروع قانون، ومتابعة أعمال اللجان البرلمانية وجلسات مجلس النواب، ما يضفي العلنية والشفافية ويسلط عليه مزيد من الأضواء الكاشفة، التي تساعد على زيادة التفاعل والتلاقي بين أطراف العملية التشريعية .
وإذا كانت التشريعات تتم عبر هذه القنوات المتعددة المتخصصة سياسيا وقانونيا، فلا بدَّ أن تخضع تباعا لعملية الحداثة، لتواكب كل الأفكار والطموحات المجتمعية الراهنة والحديثة، فهي ليست جامدة، بل متفاعلة باستمرار مع كل المتغيرات والتطورات.
إنَّ تحديث القوانين بشكل دائم يمثل ورشة تبدأ ولا تنتهي، طالما أن الإنسان يعمل وينشط ويتجدد ويتمرد على السكون، ويبحث عن التفرد، خاصة أن معظم القوانين، قد تخطى الزمن القسم الكبير منها ولم تعد تواكب ركب الحضارة، إضافة إلى تغير العادات والتقاليد والاكتشافات والاختراعات العلمية الجديدة .
كل ذلك يتطلب نفض الغبار عنها واعتماد الحداثة ومجاراة التطور في المضامين والإسلوب .
كما يتطلب الأمر في تحديث القوانين الوعي والدراسة والمقارنة، واشراك الجميع بمعنى أن نقف على رأي العدد الأكبر من القضاة والمحامين ومراكز البحث ومنظمات المجتمع المدني المختصة والشرائح المهتمة بمشروع القانون، لأنه بقدر ما يتسع أفق المشاورة بمقدار ما يأتي العمل التشريعي خاليا نسبيا من الأخطاء.
ان الترفع عن الصراعات السياسية وتركيز جهد ووقت مجلس النواب في المهام الاساسية له، يعدان من المهام الكبيرة والانجاز الفكري والحضاري، الذي سيخلده التاريخ لهذه الدورة البرلمانية ورئاستها.
*مستشار قانوني