جورج أورويل.. صناعة الديكتاتوريَّة

ثقافة 2022/06/11
...

  قراءة وترجمة: 
كامل عويد العامري
كانت أوروبا قد عرفت، في القرن العشرين، واحدة من أسوأ الديكتاتوريات (النازيَّة) بينما عانى جارها، الاتحاد السوفياتي، من دكتاتورية الماركسية اللينينية، كما يرى ميشيل أونفراي الذي يقدم تحليلا للديكتاتوريتين من خلال تحليل روايتين لجورج أورويل، هما (1984، ومزرعة الحيوانات)، ويفترض أن هناك العديد من المقارنات بين 1984 و... أوروبا الحالية، والتي يعدها لذلك ديكتاتورية.
 
يذهب الاعتقاد إلى أن فكر جورج أورويل السياسي هو من أعظم الأفكار. على قدم المساواة مع خطاب (الأمير) لمكيافيلي أو خطاب لابويتي حول العبوديَّة الطوعيَّة، أو لوياثان هوبز أو عقد روسو الاجتماعي. يساعد أورويل على التفكير في السياسة من وجهة نظر اشتراكيَّة وتحرريَّة. لكن بما أنَّه اختار الرواية والحكاية الحيوانيَّة لتحميل أفكاره، فإنَّ المفكرين المؤسسين لا يتوقفون عنده. ولكنّه يُقرأ في البلدان المحرومة من الحريَّات.
ومع ذلك، باستثناء كامو، هناك عدد قليل من المفكرين الذين تميّزت اشتراكيتهم التحرريّة بصراحة عن الاشتراكيّة الاستبداديّة. وقد اتجه باكونين وكروبوتكين باعتبارهما هيغليين يساريين، نحو ماركس، الذي يختلفان عنه في وسائل الوصول إلى السلطة، ولكن ليس في الغايات. الحقيقة بالنسبة لهما هي فكرة أكثر من كونها حقيقة. ينبغي أن يكون هناك مفكر لا سلطوي أن يفكر في الجانب اليساري من خارج تأثيرات الماركسيَّة. إنَّ رواية 1984 ومزرعة الحيوانات تساعدان في ذلك أيضًا.
هذان الكتابان صدرا وكانت روسيا لا تزال سوفيتية. وهما يشيران إلى معايير أخرى غير التي كانت موجودة في ذلك الوقت: الشموليَّة القوميَّة الاشتراكيَّة والشموليَّة الماركسيَّة اللينينيَّة. هذان الوحشان ماتا. وكان يبدو أن أعمال أورويل قد فقدت أهميتها. لأنَّها تتحدث عن زمن بعيد.
بالطريقة نفسها التي كان من الممكن أن يبدو بها كتاب (الطاعون)، الذي اعتبره بارت ثقيلًا جدًا على البغل البلشفي بسبب ذوقه وليس ثقيلًا بدرجة كافية على الحمار النازي، ككتاب مؤرخ مناهض للفاشية لأنّه أشار إلى الأنظمة الشموليّة في ذلك الوقت، وكان من الممكن أن يقودنا مؤلف أورويل السياسي إلى الاعتقاد بأنه كان يسقط في الوقت نفسه الذي كان فيه يسقط جدار برلين. 
ولا ننسى أنه في نهاية رواية الطاعون، أوضح كامو أنّ الوباء لن يختفي أبدًا على نحو حقيقي، وأنّه ينام بعين واحدة مفتوحة، ولا يتطلب الأمر الكثير حتى يصبح نشطًا وتظهر مرة أخرى أولى الفئران الميتة مما يشير إلى عودة الوباء. لذلك كانت رواية الطاعون كتابًا يشرح الأمس ولكن أيضًا، وهذه هي سمة عبقريّة مؤلفها، يفكك شفرات اليوم، ثم غدًا، وحتى بعد غد. أما أورويل فهو أحد هؤلاء الكتّاب: فيفكر في الأمس الذي يمكن أن يكون غدًا وأحيانًا يتضح أنه اليوم. لنضع الأمر بطريقة أخرى: إنه يتعلق بالعالم، لأنه يقترح نظريَّة للديكتاتوريَّة.
لو عدنا إلى أصل كلمة، نظريَّة فهي بمعنى التأمل، والمراقبة، والبحث. أما الديكتاتوريَّة فهي ما ينبغي أن يعاد التفكير فيها بطريقة جديدة. لأنَّ زمن نسبتها، كان يعود إلى زمن روما، ففي نهاية عام 82 قبل الميلاد أو بداية 81 قبل الميلاد، عين مجلس الشيوخ سولا (لوسيوس كورنيليوس سولا) قنصلا لسن القوانين ولتسوية الدستور. وصادق مجلس الشعب بعد ذلك على القرار، من دون تحديد مدة زمنيَّة معينة للمنصب، شريطة أن يكون ذلك أو في ظل حالة استثنائيَّة. وأن جميع الوسائل متاحة له لحل المشكلة التي أدت إلى تكليفه بهذه السلطة العليا. هكذا تم تكليف سولا باستعادة الجمهوريَّة.
لكن قبل كل شيء، كانت ديكتاتوريات القرن العشرين هي التي أسهمت في وضع تصنيف جديد، حتى لو شهد جنكيز خان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في الصين، أو تيمورلنك في أوزبكستان وكازاخستان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، أو حتى كرومويل في إنجلترا في القرن السابع عشر، على أنَّ الدكتاتوريّة في كل العصور وفي كل القارات.
كان القرن النووي هو بالفعل قرن الديكتاتوريات، أولاً بشكله الماركسي اللينيني، ثم بطريقة رد الفعل ولكن التوأمة، في الشكل الاشتراكي القومي. والدليل على هذه التوأمة ما قدم في الاتفاقية الألمانيّة السوفيتيّة التي احتفلت بزواج هذين الوحشين الشموليين بين 1939 و 1941. نحن مدينون لحنا أرندت بتحليل مفصل لهذه الظاهرة في كتابها (أصول الشموليَّة) - ثلاث مجلدات نُشر بين عامي 1951 و 1983 - تحليل لم يظهر فيه اسم أورويل مطلقًا، ولا في الأعمال الكاملة أو في المراسلات.
ومع ذلك، يبدو أن حقب (ما بعد الشموليَّة) لم تمنع «نمطا جديدًا من الشموليَّة». على العكس تماما. استمر هذا الشكل السياسي عبر القرون. ولأنه يتطلب ديالكتيكا، فهو كالمطاط يأخذ مظاهر مختلفة بمرور الوقت.
لقد ماتت ألمانيا النازيَّة في عام 1945، ولفظت روسيا السوفيتية أنفاسها الأخيرة في عام 1991، واختفت ما يسمى بالديمقراطيات الشعبيَّة للكتلة الشرقية في الفترة نفسها. وفي ما يتعلق بأوروبا، لم يعد هناك من وجود للديكتاتوريتين الشموليتين اللتين كانتا تدوران في خلد أورويل. لكنه فكر فيما وراء العصور التاريخية في شكل خالص من الشموليَّة. تقدم رواية 1984 ومزرعة الحيوانات فرصتين للتفكير في الأمر.
يمكن تلخيص الأطروحات المكونة لنظرية الديكتاتورية هذه. وكيف من الممكن إقامة نوع جديد من الديكتاتورية اليوم؟
يحدد ميشيل أونفراي مؤلف الكتاب (نظريّة الديكتاتوريّة 2019) سبع مراحل رئيسة: تدمير الحريَّة، إفقار اللغة، إلغاء الحقيقة، قمع التاريخ، التنكر للطبيعة، إشاعة الكراهيَّة، الطموح بإمبراطورية. وكل مرحلة من هذه المراحل تتكون من مدد معينة.
لتدمير الحرية، من الضروري: ضمان المراقبة الدائمة، تدمر الحياة الشخصية، إزالة الشعور بالوحدة، إشاعة الفرح في الاحتفالات والعطل الواجبة. توحيد الرأي العام، التنديد بجرائم الفكر، «الارتياب جنحة في حدِّ ذاته». 
جريمة الفكر؟ هو أن يفكر المرء بنفسه، أن ينظر إلى ما هو، ليرى ما يجب رؤيته، أن يسمي ما يجب تسميته... الاعتقاد بأن الواقع هو ما نلاحظه، وما نراه وما نسمعه، وما يمكننا قياسه لأنفسنا بعد أن نفهمه بطريقة ذاتية ومفردة، هو ارتكاب خطأ فادح، جريمة فكرية.
لإفقار اللغة، من الضروري: ممارسة لغة جديدة «بيت القصيد من الكلام الجديد هو تضييق مجال الفكر»؛ استخدام لسان مزدوج» التفكير المزدوج هو القدرة على حمل قناعتين متناقضتين في ذات الوقت.»، تدمير الكلمات، استخدام شفاهية اللغة، التكلم بلغة واحدة، محو الكلاسيكيات. 
لإلغاء الحقيقة، من الضروري: تعليم الإيديولوجيا، استغلال الصحافة، نشر أخبار مزيفة، خلق واقع: “لا يوجد شيء خارج الوعي”. 
لمحو وقمع التاريخ، يجب: محو الماضي، وبمجرد نسيان محوه، تصبح الكذبة حقيقة إعادة كتابة التاريخ: “من يتحكم بالماضي يتحكم في المستقبل، من يتحكم في الحاضر يتحكم بالماضي”. ابتكار ذاكرة “نحن نعرف كيف نخلق الموت”، إتلاف الكتب، تصنيع الأدب: الكتب سلعة مثل أي شيء آخر، التنكر للطبيعة “قوانين الطبيعة من صنعنا”، يجب: تدمير دافع الحياة “الرغبة هي جريمة الفكر”، وتنظيم الإحباط الجنسي: “إفراغ الفعل الجنسي من كل اللذة”، تنقية الحياة: “يجب إنجاب الأطفال عن طريق التلقيح الاصطناعي”.
لنشر وإشاعة الكراهيَّة، من الضروري خلق عدو: “عدو اللحظة يمثل الكراهيَّة المطلقة” وتأجيج الحروب، “تزداد هستيريا الحرب مع المستوى الاجتماعي”، إخضاع الفكر النقدي لعلوم الأمراض العقليَّة والنفسيَّة، أي تفكير نقدي غير مناسب في هذا النظام الشمولي. يعد مرضًا يجب علاجه والشفاء منه. لا مجال للنظر في حريّة التعبير، حريّة الضمير، حريّة الكلام، حريّة التجمع، التي هي العدو العام الأول. إنهاء آخر رجل: “ما تريده السلطة هو وضع حد لكل ما في الإنسان مما هو إنساني: الإنسانيّة، على وجه التحديد، التي تفترض مسبقًا التعاطف، والانسجام، والرحمة، والاحترام، والصداقة، والحب، والعاطفة، والشعور، والحنان، والمودة، والاستقامة، والكرامة، وبهجة العيش”.
للتطلع إلى الإمبراطوريّة: “وللحزب هدفان: غزو كل سطح الأرض والقضاء على كل إرادة مستقلة”. من الضروري: تهيئة الأطفال: “التهيئة التي يخضع لها الأطفال منذ الطفولة [...] يحرمهم من أي رغبة أو قدرة على الخوض في أي موضوع على الإطلاق”، إدارة المعارضة: “الأخ الأكبر يراقبك”؛ الحكم مع النخب: “كانت الأرستقراطية الجديدة تتألف بشكل أساسي من البيروقراطيين والعلماء، والفنيين والصحفيين وقادة النقابات وخبراء الإعلان وعلماء الاجتماع والأساتذة والسياسيين المحترفين”. الاستعباد من خلال التقدم التكنولوجي. إخفاء القوة: “في مكان ما، في عدم الكشف عن الهوية بالكامل، هناك العقول المدبرة التي تنظم كل شيء وتحدد الخطوط الرئيسة للسياسة”.
في روايته 1984، قدم أورويل نظرية الديكتاتورية، لكنه قدم أيضًا نظرية الثورة في “مزرعة الحيوانات”. لقد قدم الروائي بروح إيسوب وفيدر ولافونتين حكاية نثريَّة طويلة مع أطروحة بسيطة للغاية: الثورة هي نقلة نوعية كاملة.. قبل العودة إلى نقطة البداية: وأي ثورة هي تدمير بهدف إعادة الإعمار الذي يتبين أنّه استعادة بريئة وبسيطة لما تم تدميره.! هذا هو درس أورويل المأساوي. تصبح حيوانات المزرعة التي تصادر سيدها أكثر استبدادًا من السيد المذكور. وحده الحمار، وهو الحيوان الذي لا يفرض أحد عليه النير، ينقذ العالم بالحفاظ على تفكيره النقدي.
من الواضح أن أي تشابه مع موقف معروف ليس من باب المصادفة بالنسبة لميشيل أونفراي، الذي يذكرنا بأن عام 2050 هو الموعد النهائي الذي حدده أورويل لنتيجة نبوته القاتلة. “بالمعدل الذي تسير فيه الأمور”، وقد يكون محقا في قلقه: 2050 ليس أملًا عبثًيا بالنسبة للعدميين الذين يسمون أنفسهم تقدميين».