الجيل بين العمرين الزمني والإبداعي

ثقافة 2022/06/12
...

 د. نادية هناوي
استعاد المشهد النقدي في العراق في الآونة الأخيرة وتحديدا بعد رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر اختلافه الذي كان قد عرفه في عقود سابقة حول موضوعة الجيل الأدبي ومنهجيَّة تجييل الشعراء. وطفت إلى واجهة المشهد النقدي صور شعراء الستينيات من القرن الماضي مجددا كجيل قائم بذاته مفصول بتميز عن صور غيره من شعراء العقود السابقة واللاحقة، ومدرجة فيه قسراً تجربة الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر.  
ولعل من نافلة القول إنَّ التوصيف العقدي (ستيني، سبعيني، ثمانيني) هو تصنيف تاريخي يُوزَّع الموصوفون به في خانات زمانيَّة عشريَّة. وهو أمد يلائم نسبياً المجالات والأنشطة البدنيّة أو الجسديّة التي فيها يكون التغيّر حاصلاً خلال السنة الواحدة كما أنَّ التحول من مرحلة إلى أخرى من ناحية الإتقان والاحتراف أو فائقيَّة الإنتاج والممارسة العملية والخبرة الحياتيّة يغدو متحققاً كخصائص بدنيّة متغيرة عمّا قبلها وما بعدها خلال عشر سنوات وبحسب فئات أعمار الأفراد (يافعين، شباب، كهول). وكلما مرّت مدة وجيزة على أفراد أيّة فئة عمريَّة، كان التغيّر أكثر وضوحاً حتى إذا انقضت عشر سنوات تكون تلك الفئة قد وصلت إلى نقطة تسمح بظهور فئة أخرى غيرها لتكون بديلة عنها أيّاً كانت قريبة منها وتشابهها أم تختلف عنها وتغايرها. وقد يعتزل أفراد تلك الفئة أو يتقاعدون عن أداء وظائفهم إذا تطلب مجال عملهم قدرات بدنيَّة عالية كما نجد ذلك في مجال الألعاب الرياضيَّة والاستعراضات المسرحيَّة.
بيدَ أنَّ هذا الأمر برمته لا ينطبق على مجالات وفعاليات لا تتطلب مجهودات بدنيَّة ومنها مجالات الكتابة الأدبيَّة التي يمارسها من يمتلك الموهبة ولديه الإلهام ويتمتع بمران وتمرّس في التعبير والتأليف مثل القصاصين والشعراء والكتّاب. وكلما تقادم العهد على هؤلاء ـ بالعموم الجماعي وبعيدا عن الحالات الفرديّة والاستثنائيّة ـ  ازداد تمرّسهم قوة، وصاروا أكثر احترافا في عملية الإنتاج الكتابي وأقدر على الإفادة من الموهبة ومن ثمَّ لا يطرأ تغير جماعي عليهم ولا يحصل تفاوت واضح وخاص خلال السنة والسنتين وحتى العشر سنوات وربما العشرين سنة. 
ولا يعني هذا انتفاء الفروق الفرديَّة بين شاعر وشاعر وكاتب وكاتب نقصا أو زيادة، تمرنا ودربة، وإنَّما هي السمة الجماعيَّة لهؤلاء الكتّاب بوصفهم يمارسون طرائقهم في الأدب على وفق التقاليد الكتابيَّة السائدة في زمانهم أو بحسب ما يجرّبونه من طرائق غير معتادة.
وقد يحصل أن تتميز فئة على هذا المجموع بما تستعمله من طرائق وما تتبعه من تقاليد، لكن ذلك لا يكون إلّا بعد مرور زمن ليس بالقليل ولا القصير. والسبب أنَّ التغيّرات في القدرات الكتابيّة لا تحصل بالوتيرة نفسها التي تحصل في القدرات البدنيَّة، ومن ثم لا يكون للعمر الزمني أثر في تبدل الأدب لأنَّ الموهبة فطرة تُشحذ بالمران والتمرّس وهي لا تتعرض للشيخوخة بتقدم السن وإنّما بالعكس أي كلما تقادم الزمن عليها برزت أصالتها. 
وإذا كان مقياس العمر الزمني للأجيال البشريَّة يحدده اليوم والشهر والسنة، فإنَّ مقياس العمر الإبداعي للأجيال الأدبيَّة تحدده التحولات في التقاليد والطرائق والمواهب. وكما أنَّ تاريخ الأجيال البشريَّة يفرضه التعاقب الزمني من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، فكذلك تاريخ الأجيال الأدبيَّة تفرضه تعاقبيَّة التحولات الفنيَّة والتمرحلات النوعيَّة في الكتابة الأدبيَّة وبشكل عام وجماعي ضمن أدب أمة في عصر معين. وبعبارة أوجز نقول إنَّ مقياس العمر الزمني فردي تدلل عليه التبدلات الجسديَّة طفولة وشبابا وكهولة بينما مقياس عمر الحركة الإبداعيَّة جماعي تدلل عليه التحولات الفنيَّة والجماليَّة.وعادة ما يكون تحديد عمر فئة ما بالوصف الزماني عُشري السنين ومتحققا بالقول: (عشرينيون/ ثلاثينيون/ خمسينيون..) بيد أن عمر الجيل الأدبي بالوصف الإبداعي عادة ما يكون متحققا بالتحقيب الفني للمراحل كتحولات وانتقالات.
وهذا يعني أنَّ التحقيب الإبداعي ليس كالتحقيب التاريخي، وأعمار الأجيال الفنيَّة ليست أعمارا زمنيَّة. ويظل الامتداد والتواصل حاضرا بين الأجيال كلها الأدبيَّة وغير الأدبيَّة بغض النظر عن طبيعة التبدلات إن كانت بايولوجية وجينالوجية بسببها يهرم الجيل جسديّاً ليُولَد واحد آخر فتياً أم كانت التبدلات فنيَّة، فيتقادم الجيل ويذوي ليظهر جيل جديد ومستحدث. 
وعلى الرغم من أن هذا التوصيف للأجيال تفرضه قوانين الحياة والأدب، فإنَّ أمر غيابه أحيانا عن أعين بعض مؤرخي الأدب والنقاد يبقى قائماً فتتم معاملة القدرات الأدبيَّة كمعاملة القدرات الجسديَّة من حيث أن الزمن هو مقياس عمر الأجيال الأدبيَّة، والأسباب كثيرة منها تعميم النظرة الفرديَّة التي فيها يكون للزمن تأثير في الفرد الواحد ليكون مجموع الأدباء أيضا خاضعين لهذا التأثير ومن ثم تبدو السنوات العشر كافية لقياس التأثير الزمني على
الجيل. 
ومن الأسباب أيضا إيلاء العطاءات الكميَّة اهتماما مع إهمال التجارب النوعيَّة ومن ثم تكون السنوات العشر مفضية إلى محصلات قد لا تنطوي على تغيرات فنيَّة تفرض التحول من مرحلة إلى أخرى. وحتى إذا حصلت بعض المتغيرات فإنَّها تظل استثناء، ونظريات الأدب وقوانينه لا تأخذ بالاستثناءات وإنَّما هي تبني محصلاتها على ما هو عام وشامل.وهذا الخطل في فهم معنى الأجيال الأدبيَّة قد ينجم أيضا عن القصور في تقدير أهمية دراسة الأجيال الأدبيَّة وكيفيات ظهورها وتبلورها أو تلاشيها، والمقاييس المعتمدة في تحديدها وبيان سماتها وطبيعة المصاعب والأزمات التي قد تجعل الأجيال الأدبيَّة تفتر ويخفت ظهورها في أزمان معينة.  وأكثر التحولات الفنيَّة التي بسببها تولد الأجيال الأدبيَّة هي تلك التي تحصل بسبب أحداث سياسية واجتماعية تترك أثرها كبيرا على الفن والأدب. ولقد مرت كثير من البلدان في تاريخها الحديث بثورات وانقلابات وحروب تركت آثاراً في آدابها فكان أن ظهرت تجارب متجددة الأساليب والمضامين وتستعمل سياقات جديدة تترسّخ بمرور الوقت كتقاليد، معلنة ظهور جيل أدبي جديد يوسم بأنَّه رومانسي أو ثوري خلفا لجيل سابق يعرف بأنَّه محافظ أو كلاسيكي. 
وإذا خصصنا حديثنا في الشعر العراقي الحديث منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم، فإنَّ الأجيال التي ظهرت هي ثلاثة، وفي كل جيل حصل تحول فني أمده بين ما يقارب الخمسة والعشرين والثلاثين عاما وأدى إلى تحديث القصيدة العربية. 
فكان الجيل الشعري الأول كلاسيكياً بدءاً من أدباء النهضة الأدبيَّة ومرورا بمن تلاهم خلال العقدين الأولين من القرن العشرين وما بعدهما من الذين أضافوا إلى القصيدة العمودية الكلاسيكية إضافات تجديدية تنسجم والمرحلة السياسية والاجتماعية وحصل تجريب طفيف في تعدد الأوزان بحثاً عن شعر مرسل يطور النسج اللغوي للمادة الشعريَّة. وبزغ الجيل الشعري الثاني الذي مثّل الحداثة الشعريَّة الأولى مع حركة الشعر الحر التي قادها الرواد الثلاثة نازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البياتي، وما حصل على أيدي من تبعهم من تحديث وتطوير في قصيدة التفعيلة ثم في قصيدة النثر من ناحية الأساليب والموضوعات والأفكار والتجريب على مستوى الإيقاع التفعيلي وموسيقى البحور. وقد غذّت هذا التجريب ثلاثة روافد، الأول وزني تمثل في التدوير الإيقاعي الذي انفردت به قصيدة حسب الشيخ جعفر، والرافد الثاني فكري تمثل في المضامين المستجدة من جراء التأثر بالتيارات الغربية الحداثية وما بعد الحداثية، والرافد الثالث انقلابي مثّله شعراء، بعضهم كان متصعلكاً وبعضهم الآخر كان محبطاً وثائراً فكانت قصيدة النثر هي هاجسه الممثل لتطلعاته. 
وكان لتأثير الحداثة الشعرية الشامية أثر في الشعر العراقي فظهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين حداثة شعرية ثانية مهّدت لولادة جيل شعري ثالث تطوّرت قصيدة النثر على يديه وصارت جنسا قائما بذاته وكثر الذين يداومون على كتابة قصيدة النثر وما زالوا يداومون إلى اليوم في سبيل ترسيخ بعض التقاليد الفنيَّة التي يحتاج اكتمالها إلى مزيد من النضج الفني. وعندها يكون التحول الشعري ممكناً نحو جيل جديد قد يعود القهقرى إلى قصيدة العمود وقد يجمع بها قصيدتي التفعيلة والنثر وقد يبتكر قصيدته الخاصة. وهذا كله يظل مرهوناً بالمستقبل وما سيكون فيه من تجريب وفاعليَّة في الحركة الشعريَّة.