سلطة الذائقة.. صراع الأشكال التعبيريَّة

ثقافة 2022/06/13
...

 أحمد الشطري
 دأب الإنسان منذ خلق للبحث عن وسيلة يعبر فيها عن مشاعره وأحاسيسه ورؤاه، فكانت اللغة والصورة والإشارة هي الوعاء الذي استطاع من خلاله التعبير عن كل ذلك، ثمّ تنوعت طرق التعبير في كل وسيلة من تلك الوسائل، وتفرّقت الآراء تبعا لتعدد الأذواق، فكانت الذائقة وما زالت هي الموجه الرئيس في التفاعل الجماهيري كميّا وربما نوعيّا أيضاً، إذا ما أضفنا لها المؤثرات الفنية التحليلية المبنية على أسس وقواعد علمية.
 
 بيد أن اختلاف الآراء وتعدد الأذواق أوحى للكثير أنّ ثمة صراعاً قائماً بين هذه الوسائل التعبيرية سيؤول إلى فناء طرف وبقاء طرف آخر على ذمة الخلود. والواقع أن مثل هذا الصراع وهذه المعركة الخفيَّة هي نتاج وهم وتخيلات لا مبرر
لها.
إنَّ المعطى الجمالي هو المعيار الأوحد والأصدق والأقدر على الحكم ببقاء أو فناء ليس الوسيلة التعبيرية برمتها بل الشكل الذي استخدم تلك
الوسيلة. 
إنَّ كل المدارس النقديَّة جاءت لتشذب وتبعث روحا جديدة في كل وسيلة من وسائل التعبير صورية كانت أم لغوية أم إشارية (ونعني بالإشارية هنا: هي فنّ التمثيل على الأعم باعتبار أن الجسد يستخدم فيه الحركة المتنوعة كأسلوب للتعبير عن المشاعر والأفكار سواء كان مع اللغة أم من
دونها). 
وقد يقال أن ثمة فنوناً أو وسائل تعبيرية اندثرت، مع أنها كانت تمتلك من المعايير الجمالية ما يوجب بقاءها، نقول إنَّ تلك الفنون أو الوسائل لم تندثر وإنما جرى تطويرها سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة ومن ذلك الملحمة والمقامات والحكايات الشعبية وغيرها، والتي تتقارب نوعا ما مع القصة والرواية والأعمال الدرامية.
ومما يتوهمه البعض أيضا أن ثمة صراعا قائماً بين قصيدة الشعر الموزون وقصيدة النثر، والواقع أن ذلك الصراع لا أساس له، ولا مبرر لوجوده، فكلا الشكلين فيهما من الجماليات ما يغري المتلقي بالتفاعل معها، والإصغاء لخطابها ويبقى للذائقة السلطة في توجيه المتلقي نحو الشكل الذي ينسجم
معه. 
إنَّ عملية التطور والتغير الشكلي تبقى دائبة ولن تتوقف، لأنَّ عجلة الزمن دائبة الحركة ومنفتحة على فضاءات متغيرة مليئة بالتحديات، مما يفرض إرادياً أو لا إرادياً توافقاً حركياً بين حركة الزمن وحركة الأشكال والوسائل التعبيرية، لكي تتناسب مع حركة الذائقة المتجددة.   
ولعل التداخل الذي كثيراً ما يجري بين الفنون بأشكالها المختلفة يمثل الصورة الحقيقية لمتطلبات الإنسجام والتوافق بين تلك الأشكال
التعبيرية.
إنّ كل شكل تعبيري هو وعاء محمل برؤى وأفكار ومشاعر خالق النص، وهو انعكاس لرؤى وأفكار ومشاعر المتلقين باعتبار خالق النص هو مرآة للمجتمع الإنساني بآلامه وأحلامه وطموحاته ومجريات
حياته.
وليس معنى ذلك أننا ننفي التنافسيّة بين الفنون والأشكال التعبيريّة بشكل تام، بل أننا نرى أن تلك التنافسيّة هي التي تفتح الأبواب وتحفز على البحث والسعي الدؤوب، لخلق وتقديم الرؤى في مبنى جمالي جاذب للمتلقي، لتمكين الخطاب من الوصول إلى الحالة المثلى من التفاعليّة والتأثير. 
والسعي للبحث والتنقيب عن مكامن الخلل والضعف والقبح في الشكل التعبيري الآخر (المنافس)، ‏والتصور والبناء على أن تلك التنافسيّة هي مسعى لقتله وتقزيمه؛ هو طموح تهافتي ذو أفق ضيق ينطوي على نزعة فردانيَّة لا ترى في الآخر سوى عدوّ متربص، وليس طرفا مكمّلاً ومشاركا في خلق التكامل
الجمالي. 
إنّنا نرى أنّ السعي لتطوير وإيجاد أشكال تعبيريّة بما يتناسب مع التغيرات الزمنيّة فكريّاً وعلميّاً وتكنلوجيا، سواء داخل الشكل التعبيري ذاته أم مجاوراً له، هو أمر طبيعي بل حتمي تفرضه الظروف المتغيرة والتي تلقي بآثارها وتأثيراتها على مزاج وذائقة المتلقي وتغيرات الواقع المعيشي.