صيد الساحرات

ثقافة 2022/06/13
...

 ياسين طه حافظ
هذه التسمية، أو هذا المصطلح السياسي، قل هذا التعبير الذي يقع ضمن محاولات إخفاء الجرائم بجمال اللغة، هذا كان اسم الحملة ضد التسيس يساري المنحى، الذي وجد طريقه إلى قسم من صناعة السينما في هوليود.  وقع هذا حين اتضحت العودة إلى قاعدة أو قانون عدم التعرض للموضوعات المثيرة للجدل وما يسمى بالإنكليزية controversial، كبعض الموضوعات التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وكما في فيلم “نيران كثيفة” 1947. وفيلم “إرث الجسد” 1949 وسواهما مما أفزع المحافظين المتشددين وأثار سخطهم فبدأت لعنات اللاسامية والعنصرية وتهم مثيرة أخرى. وصل الأمر حد أن أثارهم فيلم إنساني عام هو “أجمل سنوات عمرنا” أو “أجمل سنوات حياتنا” 1946. 
 
أسهمت في هذه الحملة الكنائس فراحت تجيّش الرأي العام من البروتستانت والأصوليين الكاثوليك الذين تبنوا، وسلطوا الأضواء على الأبعاد الدينية للمعركة “ضد الشيوعيين الملحدين...”.
لا يعنينا من هذه الكلمة ضد من، ولكن ما يعنينا هو كيف تتوجه السلطات إلى الفن الذي يهددها والثقافة المعارضة التي ترى فيها خطراً عليها لا سيما حين تكون هكذا ثقافة ذات حضور وتأثير واضحين في الأوساط العامة. 
عموماً، لم تكن الحال تستوجب كل تلك الإجراءات. وما كان في أفلام تلك المرحلة، المدانة، ذلك الخطر الذي صنعته المؤسسات ومكاتب التحقيقات. وإلا، ففيلم “أجمل سنوات عمرنا” 1946 تناول الصعوبات التي كان يواجهها قدماء المحاربين في الانسجام مع المجتمع أو في التأقلم اجتماعيّاً. ولكثرتهم صاروا حشد احتجاج وغضب. فاستثاروا هياج المتطرفين ضدهم (وراءهم طبعاً مخابرات الدولة..). وصل الهياج المضاد حداً راحوا يهاجمون الأعمال العظيمة مثل “عناقيد الغضب”، برواية شتاينبك المعروفة والمهمة. كذلك كانوا ضد أي فيلم فيه انتفاضة، رفض أو انكسار إنساني. 
ظاهر المسألة مكافحة نزعة اليسار وحقيقتها “جزّ الأدغال الشرسة” أو حركات الرفض والاحتجاج وتمرّدات ناس الشارع على الأوضاع التي أعقبت الحرب. احتمال تسرّب موضوعات ثوريّة يساريّة إلى الأفلام، احتمال ضعيف، وإن كانت ثمة يساريّة، فلدى بعض كتاب السيناريو في هوليود وهؤلاء معروفون مثلما كان معروفاً والت ديزني بأنه أحد الوشاة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، ومنذ 1940 ورونالد ريغن كان عميلاً مخابراتياً لدى المكتب ورقمه T.10، معروف ذلك وليس سراً. 
وكان مصطلح “صيد الساحرات”، الأدبي الجميل، يعني “صيد الحمر” أو “صيد الضد”. وعلى التحديد اصطياد من يثيرون أو يحرضون ضد مصالحهم.
لا أحد يجهل أن هوليود ورساميلها ليست ملك العاملين فيها ولا ملك الكتاب ولا ملك الممثلين ولا المخرجين، ولا حتى كتاب السيناريو بعددهم المحدود. ولكن كل هؤلاء، كل صناعة السينما، استفادت من احتياجات الجماهير الواسعة والمستاءة بعد الحرب، ومن رغبة الملايين بالتغيير وكون الناس ينشدون اصلاحاً وحياة أفضل فقدموا أفلاماً مربحة وجذّابة للجماهير.. 
مقابل هذا كانت الهجمة الضد. كان قمع الفكر الرافض لسطوة الشركات والرأسماليين جنونياً بلغ حداً يمكن أن يكون فيه مضحكاً.. حتى وجد أحد المتعاونين معهم، أن مشهد رفض أحد أرباب المصارف تقديم قرض لأحد الجنود الأميركيين في فيلم “أجمل سنوات عمرنا”، وجد فيه مثار شك على المستوى السياسي. 
ومن جملة في حوار “الرفيق الطيب”: “تشاركوا، تشاركوا كل شيء، هذه هي الديمقراطية..” أشتم أحدهم رائحة بروبغندا شيوعية. وحتى أن ممثلة رفضت النطق بتلك الجملة عداءً، أو خشية من شكوك التحقيقات بها. فقد جرت حملة تحقيق مع الهوليوديين وكانوا تحت طائلة السؤال وعليهم الجواب: هل أنت عضو، أو سبق إن كنت عضواً في الحزب الشيوعي...؟ 
ما يعنينا من كل تلك التفاصيل هو كيف أولاً، توظف اللغة الجميلة للنوايا السيئة في الخطابات السياسية. وكيف أيضاً تواجه حركات الشباب المتطلعين لحياة جديدة، ولتمرد الناس على البطالة والكساد. هم يصبحون أعداء سلامة البلاد ورفاهها. صيد الساحرات، ما أجمله تعبيراً وما أشنعه مضمونا.. 
هم يصنعون تعابير ويدبجون تفاسير يسوغون بها إشاعة الكراهية وقمع التوجه الإصلاحي، فهو في ادعائهم ارباك قِيَم مستقرة وإحداث فوضى. 
هكذا يوظف “التأويل” للخدمات الرأسمالية الخاصة والتوجهات السياسية التي تريد إخضاع الجميع لمشيئتها. طبعاً الكنيسة حاضرة لأداء الواجب والمال حاضر لشراء الناس والأسلحة.. 
لنا الآن سؤالان: الأول كيف للفن وللأدب أن يكشفا عمليات “الصيد”، الجائر هذه، سواء كانت صيد ساحرات أو اصطياد أفكار؟ التطلع للجديد هو المخيف. فليبادروا بقطع تلك التطلعات والأحلام أول إنباتها. وسؤالنا الثاني هو كم تحتاج هذه من الضحايا، وهل تجدي؟ 
في السؤال الملحق: وهل تجدي؟ يكمن كل انكسار الأدب وكل خيبة الفن والأفكار. فأمام الجوع وأمام الخوف وأمام إغراء البقاء آمنين متمتعين بحياتنا اليومية، كم هم القادرون على التضحية أو المستعدون لها؟ وكم هو عدد من يستسلمون، بل وينتقلون من إرضاء الحياة والجماهير إلى إرضاء وخدمة من هم، مع ثرائهم وهيمناتهم، ضد الحياة وعموم الناس؟
هذه ثيمة، هذا موضوع، لا تنتهي الكتابة فيه، ودائما ما نجده في روائع اللوحات الفنيّة أو الأعمال الأدبيّة، أو بين كتابات المفكرين. وهو أحد الأسباب الكبرى لاحترامنا ولإكبارنا لتلك الكتابات. العظمة عظمة الشأن الإنساني وراء تلك الأعمال، لا الألوان وحدها ولا الألفاظ. فبالرغم من كل السوء الذي تراه أو تواجهه البشريّة، وبالرغم من كل المحن والانكسارات يظل جمال الحياة أو الجمال الإنساني، هو الذي ننتظر أن نراه في الكتابة وفي الساحات.