الطعام وعلاقته بالجنس

ثقافة 2022/06/13
...

 وارد بدر السالم
موديلات اللباس النسائيَّة والرجاليَّة، وموضات قصّ الشعر عند الجنسين، والنوع الرياضي، والجنس، والسلوك البشري اليومي، والتصرّف الشخصي، وطرز البناء والإعمار. نظافة أو وساخة الشوارع والأرصفة والمحال والبيوت، والإبداعات العلميّة والأدبيّة، هذه وغيرها من الأمور الهامشيَّة والمتنيَّة؛ كلها تعكس الظواهر الثقافيَّة في المجتمعات وتجسد لونها الثقافي والاجتماعي. بل حتى السياسي ونوعه، وتعرّف بمحتواها المعرفي والأخلاقي.
 
 ومن ثم تمتصه لترصين بنيتها الداخليّة والخارجيّة، وتعكسه كثقافة اجتماعيّة لها رصيد البقاء الطويل. ولا يفترق الطعام الذي نستهلكه يوميّاً عن كل هذا، فهو أيضاً (يمتص مجموعة من الظواهر الثقافيّة ويعكسها) حتى لتبدو العلاقات الأسريّة في المناسبات الخاصة، تلك التي يقتسمها الطعام، عبارة عن شعور اجتماعي أليف وحميم. ينظّم أسباب اللقاء، ويضفي أجواء نفسيّة مريحة على المجموعات المشاركة في كرنفالات الطعام. سواء كانت في المطاعم أو النوادي أو الهواء الطلق. ولا شكَّ أنَّ طرق إعداد الطعام، والتعامل معه، له أثر (على تشكيل المجتمع المحلي) بما يعكس نمطيّة الحياة اليوميّة بينهم. فهناك مجتمعات نباتيّة، وأخرى حيوانيّة. وتكون نسب الاستهلاك حسب النوع الذي تفضّله المجتمعات وقد درجت عليه، لأسباب كثيرة.
الفرنسيون يأكلون أرجل الضفادع، والصينيون يأكلون الخفافيش ولحوم الحيوانات الزاحفة.
والكوريون يأكلون لحوم الكلاب، والهندوس نباتيون على الأغلب الأعم. والغربيون عموماً يأكلون لحم الخنزير، بينما يمتنع المسلمون عنه لأسباب دينيَّة. وعانت دول أفريقيَّة، ربما ما تزال، من الجوع وشح الموارد الغذائيَّة. لكنّ غيرها من الدول ترمي بقايا غذائها في البحار والأنهار. لذلك نجد أنَّ معظم الثورات البشريَّة تسبب بها الجوع المتطرّف، ويمكن لتفاقم الجوع (أن يشكل تهديداً خطيراً لاستقرار الحكومات) بتعبير آرنولد. لنرى أن الطعام يُعد مكوناً أساسياً في الحياة العامة. فهو بذرة النمو والنشاط الكلي لجسد الإنسان، بما في ذلك الجنس.
نوع الطعام أيضاً يكشف النسق الاجتماعي والطبقي في المجتمعات بين الفقراء والأغنياء، ونلمس هذا بوضوح في الدول التي تكشف تراتبيَّة سكّانها عبر الإحصاءات، فمطابخ الفقراء لا تنسجم مع مطابخ الأغنياء، ومن الضروري جداً أن يختلف الطعام بين الفريقين غير المتكافئين. ومن المؤكد أنّنا سنجد السمنة والنحافة متباينة من مجتمع الى آخر، لنكتشف ثراء أو فقر ذلك المجتمع. ولن تبدو هذه النسب رمزيَّة كثيراً، بل هي حقيقيَّة في واقع الحال. فالنحافة أحياناً - على سبيل المثال- يتطلبها تخسيس رياضي أو طبي. والسمنة قد تكون حالة مرضيَّة مفرطة. لذلك يجد الباحثون أنَّ للطعام معانيَ كثيرةً ليس أقلها الطبيعة الجنسيَّة بين الرجال والنساء، إذ إنَّ (الطعام والجنس متداخلان مجازياً) وهذا المجاز في معانيه، بأنه استمرار في الحياة، فالجنس أيضاً غذاء. يشبهه شاعر من القرن السابع عشر هو جورج هيربرت بقوله: (لا بد أن تجلس/ وتتذوق لحمي) فالجنس هو (لحم) بهذا المجاز الأدبي. وثمة الكثير من الأمثلة التي يضمها كتاب (انثروبولوجيا  الطعام والجسد -النوع، والمعنى، والقوة- كارول م . كونيهان - المركز القومي للترجمة- القاهرة – 2012) وهو جهد فكري نظري ميداني غاية في المعرفيَّة العلميَّة. وفيه من الدقة المصدريّة، ما أتاح المجال لها أن توزع اهتماماتها في هذا الموضوع، تاريخاً ومعاصرةً. لتتلازم فقرات هذا الكتاب في علاقة موضوعيّة بين الطعام والجنس. وكيف للطعام أن يُنتج أجيالاً صحيّة قادرة على أن تعيش حياتها الجنسيَّة بسلاسة، بدلاً من الانهماك غير الصحي في التهام الطعام من دون حساسيات اجتماعيّة وصحيّة، تحت ضغط المعتقدات والطقوس والخرافات والأساطير، أو العادات اليوميّة التقليديّة، التي يكون ضررها أكثر من نفعها، لذلك نقرأ أنَّ (القوة الأبويَّة في المجتمعات الغربيَّة يجسّدها استهلاك اللحوم) والنساء الأميركيات يقلنَ أن الرجال (يحتقرونهنّ) لأنّهن (مفرطات السمنة) وعلى عكسهنّ يعرّف الجامايكيّون (الجسد السمين على أنّه جذاب جنسيّاً، ويطفح بالخصوبة والإثارة الجنسيّة) وما بين الرشاقة والنحافة والسمنة، تتلوّن الشعوب في أطعمتها، وتختلف الرغبات الجنسيّة في هذه الثقافات المجتمعيّة. وصولاً الى العلاقة بين (البشر وآلهتهم) عبر قرابين الطعام، تحت تأثير عوامل سحريّة أو دينيّة. لاسترضاء أربابهم. أو تقديم قرابين الطعام لموتاهم كـ “وسيلة ثقافيّة” لاستمراريّة علاقات طيبة معهم.
موضوعة الطعام التي استهوت الكاتبة وتابعتها تاريخاً طقسيّاً، وميدانيّاً فاعلاً، أوصلتها الى أن (نضال النساء الغربيّات للحصول على القوة والهوية) يتم من خلال (إغلاق الجسد) وبما أنّ الجسد يمثل (النظام الاجتماعي والذات) فإنّه عرضة للانفصال ذاتيّاً عن العالم الخارجي المحيط به. ولكن قد تخترق الجسد أمور رئيسة لا بدَّ منها، كالطعام والجماع، كونهما غريزتين متضامنتين في الجسد الإنساني. لهذا تجد الباحثة أنَّ (دراسة الأفكار الثقافيّة عن أجساد الذكور والأناث.. يمكن أن يكشف عن الكثير من معتقدات المجتمع عن العلاقة بين النساء والرجال)، وهذا لا يتم إلّا عبر كشف دلالات الطعام الرمزيّة والبيولوجيّة، والجنس، بوصفه استدراكاً للغريزة الفطريّة التي نشأ الإنسان عليها. مع أنَّ فيهما محرّمات وضعها الدين قبل المجتمع. ومن ثم التقاليد المجتمعيّة النفسيّة التي أحاطت بكليهما. فعلى سبيل المثل أن الثديين (يمكن أن يكونا مصدراً للذّة وللطعام) لوظيفة مزدوجة، للطفولة ومن ثم للبلوغ. وهذا الأمر النفسي عالجه فرويد وآخرون في دراسات مكثفة متعددة.
قد تتم ملاحظة وجود عالمين من الرجال والنساء، إذ يتم فصلهما في بعض المجتمعات القبليّة. فيتكون منهما (نسق من المعاني) في العمل والنشاط الاقتصادي، لكن (تظهر دلائل السيادة للذكور.. في تحكمهم في الطقوس والأساطير والحروب) والصيد وغيرها. حتى لو تم إيجاد مجتمعات قبليّة، تتسيّد فيها المرأة على حساب الرجل في غينيا والأمازون مثلاً، إلا أنها سرعان ما تتنازل عن سلطتها الى الرجل، بسبب العنف الذي يمارسها غريمها
عليها.