فاخر محمد.. لغز الرقيم الأوّل

ثقافة 2022/06/14
...

 د. نصير جابر   
 
التفرّسُ في ماهية اللون ودرجة كثافته والطريقة التي وضِعَ بها على قماش اللوحة - وأقصد هنا درجة ضغط الفرشاة أو أيّ أداة أخرى استعملها الرسام لتثبيت لونه وتدرجاته المختلفة - وحدّة الخطوط والزوايا التي تفصل لون عن آخر، وطريقة عرض الأشكال المتبنّاة في علامات اللوحة وتنسيق حضورها مع ما حولها من تشكيلات أخرى مدخل أوّلي لقراءة أيّة لوحة. 
مدخل قد لا يصل بنا إلى استغوار العالم الباطني بتمامه وكماله، العالم الذي شكّله الرسام فكرة مجرّدة في البدء في ذهنه، فكرة كانت لغة وجملاً ومفاهيم ثمّ نفّذه تشكيلاً مرئياً ماديّاً أو قد لا يصل بنا إلى التقاط المعنى الذي أراده، ولكن هو- أي المدخل- لا محالة يدلّنا على أوّل الخطوات الصحيحة التي نلج من خلالها عالم أيّ رسام، ولكن يجب أن ننتبه نحن هواة الفن أو المتطفّلين على جلاله وجماله الهائل من حقول أخرى. 
 إنَّ النصَّ اللوني وهنا أقصد اللوحة يبتكرُ لغته دائما من اللّحظة الراهنة التي تُحيط به وتقمع فكرته الرئيسة فيحاول أن يقولها بطرق متعدّدة وينجح إذا كان يصدر عن عقل صائغ يحتقب (لحظة) عصره ويبثّها في عمله وهو يثقِلها بما يريده من دلالات وعلامات 
ورموز.
وتأمّل تجربة الفنان فاخر محمد أحد أضلاع جامعة الأربعة (عاصم عبد الأمير، حسن عبود، محمد صبري) يُحيلنا إلى المنطلقات الفكريّة والفنيّة التي بدأت منها تلك التجربة المحتدمة الصاخبة التي ظهرت في وقت عصيب وحاسم، ممّا أدى إلى تحملها لعبء كبير جعل رموزها يعبرون بحذر وتوجّس من لغة إلى لغة ومن علامة إلى علامة بخشية وترقّب، ولكن تلك المرحلة انتهت وكان لا بدَّ لهم من سلوك مسارب أخرى، جديدة، وفاخر أحدهم فهو يتعامل مع اللوحة ببساطة عفويَّة مخطّط لها تقترب من السهل المُمتنع ولكنّه (سهل) مرموز وعميق (سهل) يحاور داخل الإنسان ويصفعه أحيانا بقوّة لينبّهه إلى (حالة) قد تكون معقّدة يريد منه الرسام أن يعيشها، أن يفهمها ليتحول من ضفة إلى ضفة، ففي لوحاته دعوة إلى الدخول في نسغ اليومي والمعيش والزائل، دعوة للارتواء من مياه الحياة الأولى، حيث عاش وولد فاخر محمد في الحلّة العام 1954 عند نبض الرقم الطينيَّة العتيقة والآثار التي تعلّم منها، إنّه وريث شرعي لتراث حيّ وفعّال عمره الأزل، تراث مملوءة بالفن والحكمة والطلاسم، وبه وعنه ومنه انطلقت الأفكار التي وصلت إلى أقاليم الأرض 
كلّها.  
في لوحة مبهرة نرى امرأة تحمل سمكة، المرأة هي الأكثر حضوراً في اللوحة، أضخم وأطول جسداً من الزورق الذي بدا صغيرا تحت قدميها، ثمّة شجرتان يحرسان خطوتها الواثقة، أما السمكة الموضوعة في طبق من حلفاء مخروزة فهي كبيرة أيضا تعادل حجم الزورق في ثنائية متناغمة، حاول من خلال الرسام أن يقول ربما أن الحياة تصنعها المرأة التي هي أكبر حتما من سمكة أو زورق أو حتى شجرة، وللسمكة حضور دائم في فضاء لوحاته فهي تظهر في لوحة أخرى وكأنّها الفكرة التي اصطادها الكائن البشري من أعماق المعاني، الفكرة التي ألهمته أن الحياة ممكن أن تستمر فيما لو عرف كيف يروّض مساربها 
لصالح رؤيته هو وفكرته هو.
يتعامل فاخر مع الخامات كلها مثلما هو ميّال إلى المدارس الفنيّة كلها إذ هضمها درساً وبحثاً وتدريساً، فهو المتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة العام 1977، ومن ثمّ الماجستير عام 1980 والدكتوراه عام 2000، وهو بحسب التصنيفات العلمية (عالم) في تخصّصه، ولكن في الرسم لا شك ولا ريب في أن الأمر مختلف لأنّه- وأظن ذلك علمي وعملي جداً- يرسم بخبرة الرائي لا البروفسور، والرائي هنا هو المحتقبُ لكلّ شيء، بدءا من مشاهدات الطفولة الأولى مروراً بالقراءات واللقطات اللونيَّة التي ترسّبت في ذات الفنان، ثمّ تعود ألواناً وتشكيلات ورموزاً 
جديدة.
فاخر محمد  يدعونا إلى أن نعيد ترتيب أولوياتنا عند النظر إلى لوحاته، فهو يقول بلغة فنيَّة بليغة إنّ الحياة تكمن في كل زاوية، في كل جزئية مهما بدت مألوفة ومعروفة لنا، لأنَّ لذّة التعرّف هي من تصنع الحياة، وتلك هي وظيفة الفن التي يجب أن يتبناها الفنان الذي يريد لأعماله أن تعيش 
طويلاً.