مع أنطونيو تابوكي في «تريستانو يحتضر»

ثقافة 2022/06/16
...

 طالب عبد العزيز 
 
 نحن لا نعرف كم تبلغ المسافة التي يقطعها الفيل ساعة شعوره بدنوِّ أجله، لكننا نعرف أنه لن يمضي إلى هناك وحده، إنما صحبة رفيق يختاره لرحلته تلك. تثير انتباهنا المعلومة التراجيدية هذه، التي ترد عرضاً في رواية انطونيو تابوكي (تريستانو يحتضر) بترجمة معاوية عبد المجيد، لكننا، نعرف من خلالها أنَّ الفيلين ينطلقان بعيداً، مهرولَين، بتسارعٍ يأخذُ حالةَ الفيل المُحتضر بالحُسبان، المسكين، الذي سيقرّر فيها لحظة موته، ثم نعلم بأنه سيدور دورتين، ليرسم دائرة واحدةً، لن يتخطاها حتى يموت، قائلا لرفيقه: شكراً جزيلاً، قبل أن يعود رفيقُه الى حيث كان وحده.. الفيل يحمل موته في صدره، لكنه بحاجة لإيجاد مكان للموت، هذا المخلوق الضخم يعيش حياته كلها مفكراً في ترتيب موعدٍ مع
الموت.
 وفي ما نلاحظه، أيضاً، فإنَّ تجربة الموت عند الإنسان تشبه تجربة الموت عند الفيل، وهي تجربة خاصة جداً. نحن نقرأ الكتب وتُروى لنا الحكاياتُ على أمل إيجاد تفسير ما للحياة، في اعتقاد منّا بأنّها قابلة للتفسير، غير مفكّرين بأنَّ الأسئلة البلاغيَّة دائماً بلا إجابات، نحن في خليج الحَصى، حيث كلُّ ما تحت الماء واضح ومعلوم، أو أننا كمن يهرب من النار الى المقلاة، بحسب تابوكي.. في حسينية السيد تاج، على شط العرب، بقرية كوت الضاحي في أبي الخصيب، منهكاً يجلس (محمد الحرامي) الذي أطلق الأطفال عليه الكلمة التي كره سماعها في أخريات أيامه (صِرامْ) اللصّ الحِمش، سارقُ التمر، ومهرّب الأبقار، وقاطع سلاسل القوارب، الذي دوّخ الملّاكين ونواطير جواخين التمور.. بعد أن أقعده مرضه الذي مات فيه، لا يردُّ على سباب الصبية، الذين تجمهروا عند الباب، مردّدين الكلمة التي يكرهها (صرام، صرام..) وبعينٍ تجمّرت في موقدها طويلاً، راح  يرمقهم واحداً واحداً، بنظرات متأنية، سبر فيها غور سنيه كلها، هكذا، وبعد أنْ خذله كلُّ شيء، حاول أنْ يردَّ عليهم كيدهم، لكنه لم يقدر إلّا على قول جملة قصيرة جداً: (أيَّ صِرامٍ، هذا الذي تشتمونه؟ إنه يريد أن يموت).  
 كنتُ قد قلتُ ذات يوم لإحداهنَّ: (أفردي شعرك لكي يكون لي سببٌ للحياة) ترى، هل تكون الحياة بمجمل السنوات التي يحياها الإنسان احتضاراً؟ وبمعنى أدقّ، أتكون الأيام كلها بمثابة السير الطويل لرسم الدائرة تلك؟ ومن ثمّ للموت فيها؟ وهل بات بحكم المؤكد بأنَّ الأوزات البيض لن تكون أمينةً على ثيابنا الداخلية؟ هذا الجسد المجرَّد الذي يحاول تقليد لوحة لكوربيه*، الجسد بالسين المهموسة التي تليق بأصيصٍ من السوسن. نحن نعيش سردية عجيبة، ومحكمة جداً، تشبه الى حدٍّ بعيد ما ظل يرويه تريستانو على سرير مرضه لتابوكي، السرير الذي قد يكون كرسي اعترافٍ لحياته، وما حقنة المورفين التي تزرقها له فراولين، وما دخولها وخروجها المتقطع، إلّا المحاولة البائسة في إدامة حياته، ففي إحدى سردياته تقول له: «لا أثر للنهر الذي سبحتَ فيه مع فتاة ذات مرة» ثم تغلق الباب، فيحاول تريستانو أن يتذكر ما إذا كان ما قالته  فراولين حكمةً، أو شيئاً من الشعر، الذي تتلوه أيام الأحاد؟ قطعاً الحياة ليست بحاجة إلى أسباب لكي نحفظ عنها كل
شيء.
 بعد ظهر يوم الخميس، قبل خمسين عاماً، سقط عبد الله الضويلع، من النخلة الحدباء التي كانت على نهر أبي الكشك، بعويسيان، آن لم يجد لرحلته الأخيرة صاحباً ولا رفيقاً، وقد تأخر أولاده الصغار في البحث عنه، وقد أشتجر كلُّ ما هو أخضرُ حوله، والماء مرتفع في المدِّ، والثعالب تعبر النهر إلى ضفته الثانية، فزعةً من صوت سقوطه، الذي دوّى عميقاً في غابة النخل، ساعةَ لم يحظ أحدٌ بمعرفة المسافة التي قطعها الضويلع ليموت، فهو لم يسر مستقيماً كما سار فيل تابوكي إنما ظلَّ يتقلّب في الهواء، ويرسم ما لا حصرَ لها من الدوائر، ولمّا عثروا على جسده لم يجدوا أيَّ شكل هندسي حوله، إنما هلام، لا معنى له. يقول تابوكي على لسان تريستانو: إن جاءتني فروالين بحقنة المورفين سأروي لكَ شيئاً على طريقة أرنستو الوغد.