أوكتافيو باث في الهند: اقتناص المعنى المستحيل

ثقافة 2022/06/18
...

 علي محمود خضيّر
وصل باث إلى بومباي بعد بضعة أشهر، في عام 1952. مكث في الهند حتى عام 1968، أي ما مجموعه 14 عاماً، عاش آخر ستّ سنوات منها كسفير. لكنه استقال من المنصب احتجاجاً على مذبحة الطلاب في ساحة تلاتيلولكو في مكسيكو سيتي، ما اعتبره ردّاً قمعيّاً من جانب الحكومة المكسيكية على الاستياء المتزايد من سياساتها الاستبداديّة. بحلول ذلك الوقت، أصبح كتابه الأساسي متاهة العزلة (1950) -الذي تأمّل فيه حداثة المكسيك- كلاسيكياً.
كانت لحظة باث مع الهند تحوليّة. قرأ على نطاق واسع وسافر على نطاق واسع، التقى هناك بزوجته الثانية ماري خوسيه تراميني، التي أصبحت رفيقته الأثيرة. كانت روحه الفضوليَّة في تحفّز مستمر، نشط كشاعر وكاتب مقالات وفتح آفاقاً جديدة للعالم - كان قد عاش بالفعل في بيركلي ونيويورك وباريس – وفي مسقط رأسه المكسيك، كما كتب بغزارة.  بعد سنوات، قريباً من وفاته في عام 1998، نشر باث مذكرات تضمّ أفكاراً عن الدين والسياسة والمجتمع، وحول تلك الفترة الهنديّة الحاسمة، سمّاها Vislumbres de la India (1994). ؛ مديح الهند. وعلى الرغم من اختلافاتهما الهائلة، كان لدى الهند والمكسيك الكثير من القواسم المشتركة، بدءاً من الاتساع الجغرافي، وعمق وتعدّد الأوجه الدينية والثقافية. وجد باث نقاطاً مشتركة فيما يتعلق بالمطبخ والأزياء. كان مفتوناً بالدافع المحموم نحو التحضّر الذي أسهم فيه البلدان. بعبارة أخرى، كانت تلك الفترة دعوة للنظر في صفات وطنه الداخلية، على الرغم من أنه كان خارجها. قد يكون القرد النحوي The Monkey Grammarian (1974)، كتاب باث الذي يعيد تشكيل نظرته للعالم، أهم ثمار الفترة الهندية، وعلى الرغم من إكماله أثناء وجوده في كامبريدج، بعد عامين من استقالته من السفارة في الهند، إلّا أن كل شيء في الكتاب يرتبط بشبه القارة الهندية. نشر العمل في سلسلةLes Sentiers de la Création ، التي حرّرها في فرنسا الناشر السويسري ألبرت سكيرا والناقد الفرنسي غايتان بيكون. كانت السلسلة مسرحاً للتجارب المهمّة، وتضمّنت أعمالاً للويس أراغون وميشيل بوتور ويوجين يونسكو وهنري ميشو. في حاشية باث المدرجة في المجلد 11 من كتابه  Obras Completas (1996)، والذي يتضمن القرد النحوي، ذكر سعيه لاستعمال عنوان سلسة الدار كاستعارة توجيهية، وإنتاج تأمل شامل يتعلق بالانطباعات التي تركتها الهند. وقد صدرت، مؤخراً، طبعة جديدة من الكتاب عن دار (Arcade ) الأميركية، بترجمة إيلان ستافانز وهيلين لان.
عدّ النقاد القرد النحوي قصيدة نثر، أو أقرب أعمال باث النثريّة إلى الشعريّة. غاص فيه في الرامايانا، وهانومان، القرد المقدّس، الذي كانت لقاءاته الأسطوريّة منطلق لتكهّنات الشاعر في تصور أسلوب الأشياء، من الحركة والثبات إلى المعنى والهوية، الواقع الكامن وراء اللغة، وماهيّة الطبيعة. 
يبدأ الكتاب برحلة باث إلى غالطا في زيارة. سرعان ما تصبح غالطا ذريعة للحديث عن الوقت الهارب واستحالة القبض عليه؛ مكتشفاً عبر النثر “الغرف الداخلية لنفسه”، مهمة اللغة لاختبار معضلة الوعي بأفكارنا وأعمالنا المادية؛ والسؤال: هل الوعي يسلب التجربة نفسها؟. النمط الذي يستعمله باث هجين. ليس الكتاب قصيدةً كاملة، ولا مقالاً متماسكاً. لطالما فضّل هذا النوع من التجارب، مولعاً بكسر الحواجز. يأتي هذا من تقديره للأضداد -وولعه الشخصيّ برمزي اليين واليانغ -. يؤمن باث أن ما ندركه خادع: الذكورة والأنوثة، الطفولة والشيخوخة، السود والبيض، الحقيقة والباطل؛ ليست سوى نقائض سطحيّة، في الواقع. كل هذه الأقطاب تحمل في حدّ ذاتها نقيضها الخاص. ويرى أن المفهوم الغربي للفرديّة سراب. فـ «حتى عندما نكون وحدنا، نحن دائماً مع الآخرين؛ وعلى الرغم من يقيننا بفرادة أنفسنا، إلّا أننا، كما اقترح والت ويتمان، مجموعة كبيرة من الأجزاء». 
بلغ باث سن الرشد في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الحركة السوريالية في أوروبا في أوجها، وقد تركت تأثيرها على وجهات نظره الجمالية. سعى في جلّ أعماله لمحو الحدود بين المعرفة الحسيّة والخيال. وهذا، على وجه التحديد، ما يسعى القرد النحوي إلى تحقيقه؛ فهو يدعو القارئ إلى النظر للأشياء ليست كما هي، ولكن كمنطلق نحو وعي أعمق للكون. القرد النحوي كتاب سفر. لكن معنى “السفر” هنا يحتاج إلى تفسير. فالرحلة، في الكتاب، تتجاوز مفهومي الزمان والمكان، لتكون غالطا، هي الزمان والمكان في الوقت ذاته، إنه إبحار صوب المعنى المستحيل، ومحاولة حزينة في اقتناصه.
رحلة الشاعر إلى أنقاض غالطا هي الجانب المرئي من الكتاب. فيما ثمّة جانب آخر، غير مرئي للعين، يتعلق بالأفكار الداخلية الواردة في الرحلة المادية والناجمة عنها. يزوّدنا باث بانتظام بصور حسيّة ترافقه: جدار في وسط ساحة حيث “تخلق آثار الطلاء الأحمر والأسود والأزرق أطالس خيالية”؛ الأطفال على جانب الطريق، يتوسّلون إليه من أجل المال؛ والحجاج في طريقهم إلى ملاذ وسادو، الصوفي، وما إلى ذلك. الجملة في الكتاب ذهنية، معقدة، وتبدو أحياناً شاطحة في غرائبيات وعرة لا تُمسك.
عزّز المؤلف عمله بمجموعة من الصور لهذه المواقع، ربما للتحقق من دقّة تلك الصور الحسيّة.
في صميم السرد يأتي هانومان، الشهير، الذي ظهر في ملحمة رامايانا. أيقونة الشجاعة والمثابرة ورمز الولاء ونكران الذات. يستعمله باث عنصراً توجيهياً للكتاب، مثلما تكون “الليتموتيف” موجّهة للقطعة الموسيقية. يبدأ باقتباس من جون داوسون، عالم الهندوس البريطاني الذي كتب عن الأردية وتاريخ الهند، وحرّرَ القاموس الكلاسيكي للأساطير الهندوسية. يصف داوسون هانومان بأنه القرد الذي “مزّق الأشجار وحمل جبال الهيمالايا واستولى على الغيوم وقام بالعديد من الخوارق الأخرى”. إنه أيضاً “المؤلّف التاسع لقواعد اللغة”. هذه المزايا، وصخب القرد وكفاءته اللغوية، تسحر باث. يسافر هانومان إلى الكون؛ ويحاول، بطريقة ما، خياطته من خلال الكلمات. يجادل باث بأن البشر يفعلون الشيء نفسه دائماً. نحن نبني بيئتنا وندمرها، ثم نستعمل اللغة لوصف تلك الدراما. وكما أن سلوكنا متقلّب، فكذلك جهودنا في التعبير عنه شفهياً. لماذا نسمي اللون الأصفر “الأصفر”؟ هل جوهر غالطا داخل كلمة غالطا؟ الطريق الى غالطا، اختراع الطريق اثناء عبوره من دون إدراك، الانتقال إلى النهاية من دون الاهتمام بما يعنيه “الذهاب إلى النهاية”. مثل هانومان، يبني باث، في الكتاب، شبكة من الدلالات التي تقدّم صورة لملحمته الجسدية. شبكة من كلمات تؤدي إلى كلمات أخرى تؤدي إلى كلمات أخرى. كلما يقترب باث من غالطا، يدرك أنه لم يتحرك شبراً واحداً. كلنا محاصرون في المكان ذاته، محكومون بسعي المغادرة والعودة إلى الوطن/البيت في وقت واحد. يستنتج باث أن الوقت متاهة مصنوعة من خط واحد مستقيم إلى الأمام “يعطي انطباعا خاطئاً عن الحركة”. 
القرد النحوي سرد لن يذهب إلى أي مكان. وغني عن القول إنّه نصّ صعب، إنّه اختبار قراءة. ما يجعل قراءته تحدياً مثيراً. وكعادة الكتب المتفرّدة، فالمغامر المستمسك بركوب أمواجه يكافَأُ بسخاء.
ربما يكون أهم درس علمنا إياه باث في القرد النحوي أن لا يقتصر جهد الكتاب المكسيكيين موضوعياً على المكسيك في أعمالهم. تماماً كما وضع شكسبير مسرحياته في إنجلترا، وكذلك في إيطاليا والدنمارك واليونان وفرنسا وأماكن أخرى، يجب أن يكون نطاق الكاتب المكسيكي العالم بأسره. وعلى ذلك المنوال، نقول، ينبغي أن يكون نطاق الكاتب العراقي العالم بأسره.
بعد استقالته من منصبه في الهند، عاد إلى المكسيك في عام 1968. بعد ذلك بعامين، أسّس واحدة من أكثر المجلات الأدبية أهميةً في العالم الناطق بالإسبانية، Plural. وقد واجهت تجاوزات الحكومة المكسيكية بالكياسة والفطنة. عندما نفد صبر الحكومة المكسيكية من نقدها، أمرت بإغلاق المجلة. لم ييأس باث: بل واصل مسعاه في مجلة أخرى أسسها، فويلتا، وكذلك في مهنة لا تعرف الكلل، مهنة المثقف، لكنه، لاحقاً، ويا للمفارقة، انتقل ببطء إلى علاقة متهادنة مع تلك الحكومة، حتى انتهى به الأمر إلى تولي دور المتحدث باسمها.