أسير في شوارع المدينة الضاجّة بالحركة وأبحث عن أشياء كثيرة تستعصي على العد، ضفافٌ جلست على صخورها أو مشيتُ على رملها، نخلة برحيّة شامخة كانت تتوسّط حديقة البيت الذي ولدت فيه، كم تحرقني الرغبة لرؤيته من الداخل لعلَّ ظلال طفلة هناك تناديني.. مباهج صغيرة، وأصدقاء كانت لي معهم معارك طفولية كنت فيها المهزومة على الأغلب والمنتصرة في بعض الأحيان، يخضّني زمن مرتبك ويقطع عليَّ ما أنا فيه، فأتذكّر من تركتهن هناك قبل أيام، سرّاء ومنى ودلال وهنادي، لم أقل لهن وداعاً وجهاً لوجه فقد منعتنا العاصفة الثلجيّة من اللقاء، اكتفينا بكلمات قليلة عبر الهاتف انتهت بعبارة إن الدنيا صغيرة ولا بدَّ أن نلتقي ذات يوم، متمنيات لي عودة موفقة الى حضن الوطن، مؤكدات بأننا سنتواصل عبر الفايبر أو الواتساب في الأيام المقبلة، وكنا قد التقينا في المول قبل أيام قليلة حين أخبرتهن بقرار العودة، صرخت سرّاء التي لا يحلو لها الكلام الا إذا طعّمته بمفردات
انكليزية:
ـ أو ماي كاد، أي وطن يا نوال، ألم نحصل على الجنسية هنا وصار هذا وطننا؟
ومنى اكتفت بالسؤال:
ـ هل أنتِ جادة؟ .
ودلال مطت شفتيها وعلّقت:
ـ إنه خيار صعب، ولكن الأمر متروك لكِ.
وعادت سرّاء لتقول بعد أن أدركت مدى جديتي:
ـ سنفتقدك بالويكند حيث نجتمع كل أسبوع.
العش الذي عدتُ إليه، لمّا أزل أبحث فيه عن فسحة تأويني، فهو ضيق بدرجة كبيرة بعد كل المصائب التي سقطت عليه، لكنه يتعافى ولو ببطء، هناك من يريد إسقاطه من شجرة الحياة، وثمة من يحاول بكل ما يستطيع تثبيته على الشجرة، وأنا أمسكت بقشة هنادي وصعدت الشجرة، فهي وحدها من قالت لي:
ـ رأيك صائب يا نوال، فالطير المهاجر لا بدَّ أن يعود يوماً ما الى عشه، تمسكي ولو بقشة، فالقشة قد تساعدك على النجاة من هذه الغربة الشاسعة.
أسير وأصل الى البيت الذي كان بيتنا، أقف أمامه كأنني أقف أمام محراب، لم يكن مثلما كنت أراه، لقد شاخ كما البشر، بهتت ألوانه وتغير لون طلاء بابه الأبيض ليصبح ترابياً، ونخلته البرحيَّة لم تعد تعطي ثمراً جنيّا، ولم تعد لديَّ الرغبة لدخوله، أخشى أن نسقط، هو وأنا في بئر من البكاء، أتركه وأدخل الزقاق، باحثة عن دكان الحاج اسماعيل الذي كنت أشتري منه القيمر والكاهي، دكانه الصغير كان يجاور بيته، لقد مات الحاج اسماعيل منذ عشر سنوات، هذا ما قاله الرجل الذي اشترى البيت وحوّل الدكان الى محل لبيع الموبايلات بعد أن باعه الورثة.
استفزتني سرّاء حين كلمتها بالتلفون:
ـ هاي نوال، هل وجدتِ الوطن، أم أنه جثة هامدة؟
فقلت لها بعصبيَّة:
ـ الأوطان لا تموت يا سرّاء
قطعت الاتصال، ولم أعد أكلمها، بقيت طيلة ذلك اليوم منزعجة، وتذكرت كل سخرياتها، فعندما قالت هنادي ذات مرة: اشتهيت السمك المسكوف على ضفاف دجلة قرب تمثال (أبو نوّاس) ضحكت سراء وقالت بنبرتها التهكميّة:
ـ الفش هرب من نهر دجلة، وأبو نوّاس قطعوا أصابعه لكي لا يشرب الخمرة.
وحينما كنا نشرب قهوة تِم هورتنز الشهيرة قلت:
ـ صحيح هذي القهوة طيبة لكن بالحقيقة ما بيها ريحة قهوتنا العربية المهيّلة.
وراحت منى تغني بصوت خفيض: بالله صبوا هالكهوة وزيدوها هيل واسكوها للنشامى ع ظهور الخيل... علقت سراء:
ـ يمكن الهورسز بعدها موجودة لكن ماكو نشامى.
سراء لا تغني أغانينا، فهي مغرمة كما المراهقات بأغاني جاستن بيبر ومايلي سايروس، تقول بأن أغانيهما تماشي العصر وتجدد الشباب.
ينتظم الزمن المرتبك، وأقرر إنهاء جولتي فبعد قليل يخرج الموظفون من دوائرهم ويزداد الشارع ازدحاماً، أخرج من الزقاق وأسير محاذاة تلال من النفايات تحاذي الشارع العام، وبائع خضار يركن عربته جوار تلك التلال الملوّنة بكل ما قذفت به البيوت من فضلات الطعام، أشير الى تاكسي، يقول لي السائق: حجية تفضلي، وأعجب كيف أصبحت هذه الكلمة تُقال هنا للنساء جميعاً، هكذا بقدرة غير معروفة أصبحت العراقيات حجيات وهُنَّ في بيوتهن أو في الأسواق، أصعد وأتخذ مكاني في المقعد الخلفي، وبعد قليل يشغّل السائق مسجلته، فتصدمني الكلمات التي يطوّح بها المغني، سواق السيارات، الشباب على الأغلب، يستمعون الى هذه الأغاني ولا يعرفون أم كلثوم التي بحثت عنها كثيراً في الشوارع والمقاهي وسيارات الأجرة فلم أجدها، وأيضاً لم أجد رياض أحمد وحسين نعمة وسعدون جابر وعبد الحليم حافظ ووحيدة خليل وزهور حسين ونجاة الصغيرة وفيروز التي كانت تصبّح علينا كل يوم فنردُّ لها تحية الصباح بمزاج رائق، لم أسمع هذه الأصوات في السيارات، بل سمعت أصواتاً تنشّز وتنوح وتصرخ وتنتحب وتقول كلاماً غريباً.. ولم أشأ أن أنقل ما رأيت وما سمعت الى دلال ومنى وهنادي، فأنا مازلت وسأبقى ممسكة بقشة في أسفل العش لكي أصل الى حضنه
الدافئ.