كائنات الحريم.. أوهام الفلسفة.. حقائق الأدب

ثقافة 2022/06/18
...

 قيس عمر
 
خضعت الأجساد تاريخياً لتراتبية شرفية، وبناءً على هذه التراتبية تمّت صياغة موقف معرفي يتعلق بالنوع البيولوجي، لكن هذا الموقف ظل رهيناً لتصورات تاريخية تعكس تصورات متحيزة عن الجسد، بوصفه قطباً يقع في ثنائية عامة متضادة (جاف/ رطب وأعلى/ أسفل/ وطاهر/ مدنس)، هذه التضادات شكّلت تأريخاً سرياً للجسد، وتأريخاً للبيولوجيا الإنسانية، لتنشأ عنها لاحقاً مواقفُ وقيم وتراتبيات رمزية، تعتمد في حمولاتها على هذا التاريخ السريّ للبيولوجيا، ولا غرابة أن يكون هذا التاريخ التأسيسي للجسد وتراتبيته قادماً من المرويات الكبرى/ النصوص التأسيسية/ المشاغل الفلسفية القديمة/ تصورات المجتمعات ذات الطبيعة النصوصية، كل هذه المشاغل المعرفية كانت سبباً مباشراً وغير مباشر في صياغة صورة بيولوجية، ذات نزعة تراتبية، فثمّة بيولوجيا طهرية نبيلة، وأخرى مدنسة غير نبيلة، إذ إن الجسد الذكوري طاهر، لكن طهارته هنا مشروطة بالمقارنة بالجسد الأنثوي المدنّس غير الطهري عامّةً؛ بفعل عدة عوامل أسهمت في ترسيم دناسته تاريخياً بوصفه «الأكثر خضوعاً لمسألة الطهارة، مقارنة بالرجل، إذ إن تكوينها البيولوجي يجعلها في حالات تدنيس يدعوها إلى التطهر»، هذه التراتبية الطهرية/ الدنسية تستمد حجاجها من تاريخ الفلسفة، ومن المدونات الكبرى للفلاسفة الكبار، فصورة المعرفة البيولوجية التاريخية هنا، هي فريسة وعي ذكوري انتقاصي، يستمدّ حيويته ومجال إسقاطه من التاريخ الفلسفي للبيولوجيا، والاختلاف الرمزي في صورة الدم الذي تفرزه المرأة؛ بسبب التغيرات الدورية التي تصيب الجسد، فتجعله  صحيحاً/ مريضاً بفعل عوامل بيولوجية، مرتبطة بخصائص فطرية، تقع خارج الإرادة، وقد عكس التصور الطبي القديم هذا فجعل «من الدم النسائي مرادفاً للمرض والدنس، ويعتبر في الآن نفسه أن التكوين الفزيولوجي للمرأة يجعلها في مرتبة أدنى من الذكر ككائن ناقص»  فالتراتبية الدونية التي أسستها المعرفة التاريخية الذكورية، تستمد قوتها من خلال تاريخ الفلسفة بكل تنوعاته الطبية والاجتماعية والبيولوجية والدينية، وإذا توغلنا أكثر سنجد طروحات أرسطو ذات النزعة التحقيرية القائمة على سبب بيولوجي، فثمّة هيراريكية تشريفية، يطبقها أرسطو على المجتمع إذ يرى أن «علاقة الذكر بالأنثى، هي بالطبيعة علاقة سيطرة الأسمى والمتفوق، على الأدنى والمنحط»، وهذه العلاقة الفوقية التشريفية تستمدّ مرجعياتها من فلسفته في (الهيولى والصورة)، فالأنثى لا تقدّم بيولوجياً غير الغذاء في عملية الإخصاب، بمعنى أنها «ذكر غير خصب» من هنا كان دورها ثانوياً على المستوى البيولوجي، فمهمتها ناقصة في الطبيعة، والذكر هو صاحب الجوهر والمكون الأساس في الحياة، هذا التصور الأرسطي ينهض على حمولات بيولوجية تشريفية تُشيدُ نبالة نوع بيولوجي على حساب نوع بيولوجي آخر، وهذا التصور بشكله الإجمالي يقود المعرفة الذكورية إلى تعزيز وترصين التصورات الفلسفية التاريخية، القائمة على هيراريكية بيولوجية طهرية/ مدنسة، بيولوجيا رفيعة ونبيلة، تقابلها بيولوجيا مدنسة، لا تتمتع بالنبالة والرفعة، هذه التصورات الفلسفية ليست مقصورة على أرسطو وعصره إنما تمتد حتى تصل جان جاك روسو، وشوبنهاور، وكانت، ونيتشه، لنكون في النهاية أمام حقل من «الميزوجينية» التي تعني كره النساء، بسبب يرجع إلى طبيعتها البيولوجية، وبسبب من إفرازاتها الطبيعية، ذات الطبيعة البيولوجية المفارقة للرجل، هذه بعض من الأوهام التي شيدتها الفلسفة عبر معمارها الفلسفي، ويمكن لنا تلمّس تلك الآثار الباقية، والمتواصلة، والمتآزرة، ما بين المرويات الكبرى والعادات والتقاليد التي تدعو علناً إلى إيجاد فاصل صحي، وفاصل اجتماعي وفاصل قيمي وفاصل تراتبي، وكلّ هذه الفواصل قائمة على أساس الرفعة والنبالة القادمة من أصل بيولوجي، فالأصل لهذه الشرور والفواصل المتناسلة هو الاختلاف البيولوجي ما بين الرجل والمرأة، ولعلّ من المناسب والإنصاف أن نميز تلك الحدود التي تشكل علامات ومثابات تاريخية، تفصل ما بين بيولوجيا الطهر وبيولوجيا الدنس بوصفها أوهاماً.من جانب آخر حاول الأدبُ تقديم خطاب مغاير يقوم على تحديد تلك المفاصلة الجندريَّة وتحديد أسبابها ومنطلقاتها الدوغمائيَّة، فثمّة إسهامات تقف بالضد تماماً من هذه الأوهام الفلسفيَّة، ولربما تكون رواية «أحلام النساء الحريم» لــ فاطمة المرنيسي من أهم التجارب الأدبيّة الحقيقيّة، التي تروي اكتشاف تلك الحدود التي تفصل ما بين الطهر/ الدنس، ما بين عالم الرجال والنساء، وتشخِّص بدقّة الآثارَ المتواصلة لهيراريكية النوع البيولوجي بمعناها التاريخي والراهن، وتكمن أهمية رواية المرنيسي في أنّها صاحبة مشروع سوسيولوجي، لعلّ فاعليته وحيويته تكمن في القدرة على الإمساك بالصور الرمزيّة للأبوة الجندريّة، وهي تتوغل في بنية الممارسات النصوصيّة والسلوكيّة، كذلك بحثها في طبيعة العلاقات ذات النزعة الفوقيّة، القائمة على رفعة ونبالة البيولوجيا بالمعنى التاريخي والراهن النصوصي.تنتبه المرنيسي في مشروعها على التأثيم ومدياته الكبيرة، بوصفه حجر زاوية توصم به البيولوجيا المدنسة/ الأنثويّة، فالتأثيمات المتواصلة بالمجمل تشكل صورة كليّة يمكن عبرها اختصار أيّ ممارسة حرّة أو سلوك أنثوي يمسّ بالبيولوجيا الطهريّة، ذات النبالة الجسديّة الجوهريّة. إنّ طبيعة العلاقة الحقليّة المتعلقة بالبيولوجيا في المجتمعات التقليديّة، قائمة على مبدأ المفاصلة ووضع حرم آمن كمسافة وحدٍّ يفصل بين النوعين البيولوجيين، يقوم على استحضار تلك التأثيمات التي تقيد مبدأ السوية والتقابل، فالمسافة بين الجنسين هي في الأصل فواصل فوقيّة، ولا غرابة أن تستجيب روايتها السيريّة لهذه المفاصلة الهيراريكية، فالرواية تصوّر الحريم بوصفه عيشاً وحدوداً أجناسية، وتقدم لنا مجموعة من التحولات الكبرى والصغرى، وهي تعصف بالحريم وحدوده الثقافية من وجهة نظر كائنات هذا الحريم، بوصفهن نزيلات أصيلات وأبديات، في هذه المساحة البيولوجية غير الطهريّة. إنَّ عنوان (أحلام النساء الحريم) يعمل في عدة اتجاهات، محاولاً كشف طبيعة العلاقة الفوقية بين الجنسين التوافقيةَ التي تبدو فيها المرأة متفقة مع الرجل فيها، بيد أنّها توافقيّة قسريّة إرغاميّة، فمفردة (الحريم) التي تنهض على بنية معجميّة ونصوصيّة، قد تشعّبت وتوسّعت دلالتها حتى صارت مرادفة للحرام والحرمة والحدّ الفاصل والمنع، وهي تشكل دلالة مكانيّة أيضاً لحدود طوبوغرافية/ بيولوجية بعينها؛ ولهذا حمولتها متشعّبة ومتأصّلة في الوعي المجتمعي، فالرواية تقدّم سيرة لكائنات الحريم في البيت الفاسي القديم، وقد حاولت المرنيسي في الرواية كشف المسافة ذات البعد التراتبي ما بين طوبوغرافيا الحريم المدنسة، وطوبوغرافيا الرجال الطهريّة، وهو اشتغال على البيولوجيا بمعنها الثقافي التراكمي، والذي يطوي تحته مطمورات تاريخية ترجع إلى عصور سحيقة، فالرواية تطارد تلك التراتبيّة وتميط اللثام عن إشكاليات هذا الفصل وما يترتب عليه، وتمسك بالجينات الثقافيّة المُشكِّلةِ للوعي الذكوري، وتشخص بدقة عاليةٍ عبر الحوارات التي حفلت بها الرواية الدونيّة بوصفها نتيجة حتميّة لهذه التصورات الهيراريكية ذات المرجعيات الميزوجينية، فهي تصور لنا التقسيم الحدّي في البيت الفاسي القديم، وتنقل لنا عبر رحلتها السيريّة، تاريخ الحريم المرسوم بالتأثيمات البيولوجيّة، فثمّة تشخيص وإمساك بتمثلات الخطاب الجندري وهو يُمارس كسلوك طبيعي.إنَّ الأدب يمتلك القدرة على النفاذ إلى قلب الأوهام المحتميّة بالعقل، ومن ثمّ تقويضها، وإحلال تصورات جديدة، تقوم على موضوعيّة تستمدّ مشروعيتها من حقل الحياة والعيش المشترك.