مشهد الجامع وصوت الأذان

ثقافة 2022/06/18
...

 حمزة عليوي 
 
ربما لا تخلو رواية أوروبيّة معتبرة من مشهد تفصيلي تتكرّر وقائعه وصوره في النص مرات متعدّدة، يصف مشهد كنيسة ما، أو كاتدرائيّة «Cathedral” بعينها. ويأتي الوصف في سياق مشهد إنساني رحب. والمفارقة أن كل الكتاب الأوروبيين العظام منهم والعاديين، لا يتخلّون عن هذا المشهد مطلقاً. كتاب يساريون “أغلبهم شيوعيون”، كتاب متمردون، كتاب ملحدون، كتاب غير منتمين لأي مذهب أو دين، لكنّهم يتمهَّلون كثيراً في وصف الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا، في برشلونة أو جنيف أو براغ أو روما، لا فرق، الأمر سيَّان. 
لا أحد منهم يقفز على مشهد الكاتدرائية أو صوت أجراسها. اقرؤوا ما تشاؤون وتحبون من روايات أو سير أو مدوّنات كبار الكتاب الأوروبيين، ستعثرون على أوصاف تفصيلية للكاتدرائيات الأوروبية العظيمة. فلا نجد عندهم تذمراً من صوت الأجراس، ولا من مشهد الكاتدرائية هنا أو هناك في رواية بعينها. 
خذوا الروايات العظيمة لدوستويفسكي أو تولستوي أو غوغول. وإن شئتم تذكروا نصوص بلزاك أو ستاندال، حتى في عزلة سوان نسمع صوت أجراس الكاتدرائية. ولنعد إلى ديكنز وتوماس هاردي. لنتذكر لمن تقرع الأجراس، وأهالي دبلن، أو حتى رائعته عوليس. باختصار مشهد الكاتدرائية حاضر وفاعل كما الهواء والناس وحركاتهم. لا رواية أوروبية معتبرة تقفز على مشهد وصوت الكاتدرائية. والروايات الأوروبية بمختلف لغاتها تأتي على وصف الكاتدرائيات في سياق من التعاطف والحبور الإنساني الخلَّاق.
فلماذا يحرص الكاتب الأوروبي على استحضار مشهد الكاتدرائيات وأصوات أجراسها، مع أن مشهد الكاتدرائية يحيل إلى فكر وحياة قاتل الأوربيون والعالم المتحضر للتحرّر منه، وهو عالم الكنيسة والدين؟!
بتصوري أن الكاتب الأوروبي حريص وأمين على واقعه، وهو صادق في رصد علاقات الناس وتوصيفها بلا رتوش وأقنعة وإضافات خارج السياق المكاني والثقافي للمكان وساكنيه. فالكاتدرائية مشهد يومي في حياة الناس هناك، بالضبط مثل الجوامع والحسينيات هنا. الكاتب الأوروبي يعي تماما أهمية المكان بصفته ذاكرة وتراثا، وإن تقاطع مع فكره أحيانا.
والآن، هل يحضر الجامع والحسينيّة في الرواية العربيّة؟ هل نسمع صوت الأذان كما نسمع صوت الكاتدرائيات في كبريات الروايات الأوربية؟ فما هي أماكن الرواية العربيّة؟
بصورة عامة تحضر أماكن معينة حرص الكاتب العربي على توصيفها، بل هو لا يمل من وصف مشهدها. أتحدث عن المقهى، والبار، والجريدة، والشارع، والبيت، وهناك حضور مؤسس للحارة في مدوّنة نجيب محفوظ الكبرى. فأين الجامع، أين الحسينيّة، أين ذاكرة الناس؟.
مع الأسف لا وجود للجامع ولا صوت الأذان في الرواية العربيّة إلّا ما ندر. هي تحضر في روايات معينة لنجيب محفوظ، وهذا معنى العبقرية، معنى الكاتب المؤرخ لحياة الناس، العارف بأماكنهم المكوِّن لذاكرتهم وتراثهم السردي.
أحسب أن من يتأمّل النصوص المؤسِّسة للرواية العربية، باستثناء فريد لنجيب محفوظ والتكرلي وكتاب قليلين آخرين، سيجد أن الكاتب العربي كاره لمشهد الجامع وصوت الأذان، برغم أن الجامع والحسينية هما عماد الإشكاليّة المكانيّة عندنا. فإنَّ هناك نفورا واضحا في الرواية العربية من وصف المكان الديني، بل إنّ هناك رغبة في طمس الجامع وصوته بتوصيفه بصفته مكانا دينيا مرفوضا.
حتى الآن ما زلت أتذكر ذائقة قارئ تربى على قراءات أوروبية وعربية، فلما أعطيته رواية اللبناني أمين معلوف “ليون الأفريقي” نفر منها وألقاها جانبا. قال: إنه يصف الجامع وصوت الأذان بوصفه جالبا للأمن والسلام. فهو لا يعرف أن رواية ليون الافريقي إنما تصف مشهد، بل مشاهد الذبح المسيحي للعرب المسلمين في آخر مدن الاندلس، ومن الطبيعي أن يشعر مسلم بالأمن والسلام لمجرد سماع صوت الأذان.
أزعم أنّ أغلب الأماكن التي تعلَّقت بها الرواية العربيّة هي أماكن طارئة، ولا تمثل سوى المثقف وأزمته، فيما يظل الجامع مكانا شعبيا رفض الكاتب العربي التعامل معه.
بعد ذلك نجد الكاتب العربي يحتج أنه غير مقروء، بل ويشتم أمة “أقرأ”، بينما هو لا يكتب سوى عن نفسه وأمكنته الشخصية جدا!