جاك دريدا: أنْ تُفكِّر يعني أنْ تقول: لا

ثقافة 2022/06/20
...

 بريو جيرار 
 ترجمة: كامل عويد العامري
خلال العام الدراسي 1960-1961، أجرى جاك دريدا، الذي كان آنذاك مساعداً في الفلسفة العامة والمنطق في جامعة السوربون، قراءة لعبارة آلان، «أن تفكر يعني أن تقول لا». تظهر هذه المحاضرة المكونة من أربع جلسات علامات الكتابة التفكيكية المقبلة.
 
أن تفكر، يعني أن تقول لا، هو عنوان كتاب لجاك دريدا صدر في 3-6-2022 عن دار سي، أعده وقدم له بريو جيرار، وهو مجموعة المحاضرات التي كان جاك دريدا يلقيها في جامعة السوربون «أن تفكر يعني تقول لا» خلال العام الدراسي 1960-1961
ولمدة أربع سنوات، كان فيها دريدا مساعداً في الفلسفة العامة والمنطق مع أساتذة مثل جورج كانغويلهم، وسوزان باشلار، وجان وال، وبول ريكور.. يقول دريدا عن هذه السنوات التي قضاها في جامعة السوربون إنها كانت أسعد سنوات حياته المهنية في التعليم العالي. 
إن الكتابات الناتجة عن هذه المدة من التدريس، والتي لا تزال غير منشورة حتى يومنا هذا، كانت تتناول العديد من الموضوعات.
تظهر كلمتان صغيرتان «نعم» و «لا» أساسيتان في فكر دريدا في طليعة كتاباته في الستينيات، وهو عقد من الفكر الدينامي المتجدد في فرنسا، حيث يعود الفيلسوف باستمرار إلى الاختلافات بين هاتين الكلمتين. 
وإلى الأسئلة التي يثيرها. فالتوتر بين هاتين الكلمتين، إذا تمكنا من تصنيفهما على هذا النحو، لأنه، كما يشير دريدا في مكان آخر، قد لا نعرف بعد ما تعنيه هذه الكلمات الصغيرة أو كيف تعمل في اللغة، ومن ثم، هذا التوتر، إذن، فضلاً عن كونه الآليّة الأساسية للتفكيك، يوفر أيضاً نقطة ارتكاز تربويّة وبلاغيّة مهمة لدريدا في سنواته الأولى في التعليم.
من عام 1959 إلى عام 1960، أثناء التدريس في مدرسة مونتسكيو الثانوية في لومان، تساءل دريدا ليس عن قول لا، بل عن قول أي شيء، مع مسألة سلبيّة الصمت. 
وفي 1961-1962، دعا دريدا من خلال سؤال رئيس آخر «ما هو المظهر؟”. 
وناشد دريدا الفلاسفة أنفسهم الذين لجأ إليهم بـ «أن تفكر، يعني أن تقول لا» وتساءل على نحو خاص عن شكل آخر من أشكال السلبيّة، وهو المظهر. 
ثم عاد مرة أخرى إلى الـ لا في1963-1964  بمحاضرة عن برجسون وفكرة العدم، وأخرى بعنوان «أصل التفنيد» عاد خلالها مرة أخرى إلى النفي وأصل العدم لدى سارتر. 
لكنّه عاد على نحو خاص في 1962-1963  بمحاضرة «هل يمكننا القول بنعم للتناهي؟»، وهي محاضرة من ست جلسات إذ يصحح دريدا لطلابه لأنّهم سمحوا لأنفسهم بالانبهار بمصطلح «التناهي» في أطروحاتهم لدرجة أنهم أخفوا ترسيخه في مسألة «نعم» وإمكانية «قول نعم» أو «لا»  للتناهي.
بالطبع لم يستبعد نقد «القول»، بوصفه فعلاً لغويّاً، خلال هذه السنوات. 
ففي الأعوام
 1961-1962، وفي محاضرات عن «الحدس»، قال دريدا عن الفيلسوف :إنّه «ربما يكون هو من سمع صيغة أمر معينة من القول، أي واجب القول بإعطاء المعنى والتوافق مع الإحساس، وإرساء واجب الكلام في حق الكلام من خلال احترام المعنى”.
يتميّز هذا النص أيضاً بخصوصية أنه كان تجسيداً لإجابة تصحيح لأطروحة عدد من الطلاب: «في أطروحتكم، في كثيرٍ من الأحيان، كان موضوع النفي المحتمل قد أذهلكم وقد قمت بإدراج كل ما كان يمكن للوعي أن يقول له بـ لا”. 
 
**
أن تفكر، يعني أن تقول لا، مكرّسا بشكل أساسي لتفكيك عبارة الفيلسوف آلان (اميلي اوغست شارتييه 1868-1951 ). من خلال هذه الصيغة الاستفزازيّة، إن لم تكن قويّة، فإنّ ما يثير اهتمام دريدا هو أيضاً الاتزان الراديكالي في فكر آلان، المقنع في مناهضته للفاشية والرافض للعنف. 
إن فلسفة آلان تتميز بجنس أدبي فريد، فـ «الكلام»، وهو شذرات من الفكر عبارة عن تأملات اجتماعيّة وافتراضات فلسفيّة حادة.
هناك عدد قليل جداً من الإشارات إلى آلان في مجموعة دريدا. 
من ناحية أخرى، فإنّه في (أن تفكر يعني أن تقول لا) يشير أيضاً إلى العديد من المؤلفين الآخرين الذين سيقرأهم دريدا لاحقاً ويعيد قراءتهم. 
فضلاً عن ذلك، على الرغم من أن هذا النص يسبق النصوص التأسيسيّة لما سيطلق عليه اسم «التفكيك»، إلا أنها في الواقع قراءة دريدية لصيغة آلان التي يقدمها لنا هنا. 
وهو يسعى  لكشف كل جهد يحرك هذه العبارة ويلعب مع تناقضات ما يقال (ولا يُقال) عندما نقول لا، ونعم، عندما نقول إن التفكير يعني أن نقول لا. 
يسعى دريدا أولاً إلى شرح نوايا آلان ثم يتجاوزها.. لذلك نرى فيه تمريناً في المنهج، سواء من حيث الشكل، ومن ثم من الناحية التعليميّة، ومن حيث الجوهر، من خلال حشد مجموعة كاملة من علماء المنطق.
نعم - لا، بعيداً عن كونهما مصطلحاً ثنائياً، يُقدم على أنه السؤال الأساسي والأصلي الناشئ عن فعل التفيكر.
ولأنَّ هذا هو بالفعل السؤال الأول في درس دريدا: ما هو الفكر؟
بالنسبة لآلان، الذي يحرك هذا الفكر، ويوقظه، هو البحث عن الطمأنينة، والتوافق معه، وعن مصالحة معينة مع العالم من خلال السعي إلى التأكيد النهائي، أي تأكيد الحقيقة. 
بالسعي إلى قول نعم، ونعم، هذا هو أن الفكر سيذهب إلى غايته النهائيَّة، ومن ثم إلى نفسه.
وعندها سيتخلى عن سعيه، ويتخلى عن نفسه إلى السبات، سبات الإيمان. 
لذلك فإنَّ الفكر ليس سوى التفكير في الطريق إلى الحقيقة. لقد ولد في الحركة التي أتت به هناك ومن ثم في قوة السلبيَّة.
هذا هو السبب في أن ألان يقول أن تفكر يعني أن تقول لا. 
منذ ذلك الحين، أثيرت المعارضة الواضحة لنعم-لا بالتحديد من خلال مسألة أصل وأولوية، نعم أم لا، أيهما يأتي أولاً؟ 
يتميز تحليل دريدا بثلاث مراحل رئيسة. 
في الأولى، اتبع آلان في تأكيده على أن كل الفكر هو وعي. 
وعلى هذا النحو، فمن الواجب الأخلاقي أولاً وقبل كل شيء البحث عن الحقيقة ورفض المظاهر.
إن تقول لا ماذا؟
سؤال ثانوي ومشتق حسب دريدا. 
تميل المرحلة الثانية إلى تجاوز جملة آلان وتؤسس للزوميَّة الرفض الأساسيَّة.
الـ لا هو المشروع التأسيسي للوعي والرفض، وصيغته. 
وهدف النفي ليس سوى المظهر. 
في الواقع، الفكر يقول لا لشيء سوى لنفسه لأنه آمن بالمظهر، لأنه قال نعم أولاً. 
ومن ثم فإن «الإنكار» هو أولاً وقبل كل شيء «إنكار الذات”. 
«لا توجد معركة أخرى في العالم»، كما يقول آلان، غير معركة الفكر التي تتنكر لنفسها. 
يشرح دريدا أنه قبل ومن أجل مواجهة الآخر، من الضروري أن أواجه العدو بداخلي (إنَّها حرب طروادة، لأنَّ العدو موجود دائماً بالفعل) الذي يدفعني للاستلقاء، والذي يدفعني للإيمان بالمظهر من دون تمحيص. 
إذا كانت الإجابة بنعم، «تشير إلى وجود خاطب موجه لآخر» كما يشير دريدا في (غراموفون يوليسيس)، فإنّ كلمة «لا» تكون موجهة إلى الذات أولاً ودائماً. 
سواء كانت لا للعالم، للطاغية، للواعظ؛ لثلاثة متلقين، ولثلاث شخصيات من خلالها يتحاور العقل مع نفسه؛ ثلاث لاءات، جميعها أولا وقبل كل شيء ليس مع الذات. 
أخيراً، المرحلة الأخيرة، الأطول إلى حد بعيد، هي تلك التي تؤدي إلى «نقد جذري للإيمان بشكل عام”. 
وهي نفسها مقسّمة إلى ثلاثة أقسام.
يقدم الأول الافتراضات الفلسفيَّة لصيغة آلان.
يحصر دريدا فيها النقد الراديكالي للمعتقد الأليني (نسبة لـ آلان) بفلسفة استباقيّة للحرية والحكم. 
بالنسبة إلى آلان، يعد المعتقد موقفاً ساذجاً، حتى لو تبين أن ما أؤمن به صحيح، فإنَّ تفكيري سيكون خاطئاً. 
في الواقع، لا يجري التفكير في الفكر إلا في حركة حرة نحو الحقيقة. في هذه النقطة، لا يفوت دريدا، مثله (دائماً بالفعل)، فرصة التشكيك في موقعه كمدرس:
«هذا هو السبب في أن التدريس صعب للغاية. 
سيكون الأمر سهلاً للغاية ولن يكون شيئاً، إذا كانت مهمته هي نقل الحقيقة فقط. يجب تدريس الفكر أيضاً ، وهو شيء آخر غير أسلوب الحقيقة؛ وبمجرد أن تكون الحقيقة في نهاية التقنية، حسناً، يكون المرء بالفعل ضحية لهذين التزييفين في الفكر، ويبدو أنّهما بعيدان وحتى متناقضان، لكن ارتباطهما عميق بلا شك: السفسطة والدوغماتية”.
تنكشف راديكالية فلسفة آلان كاملة وفقاً لحقيقة أن فكرة الإثبات كأداة تقنية للحقيقة يجب رفضها، لأنه بمجرد أن نقول نعم، نتوقف عن التفكير ونبدأ في الإيمان. 
يجب تدمير الدليل باستمرار بوصفه محل إقامة الحقيقة المطمئن والوقائي. 
بالنسبة إلى آلان، لا ينبغي أن تكون الحقيقة كنزاً، أو سراً يجب حمايته.
لا ينبغي أن يجري إصلاحها، يجب أن تبدأ مراراً وتكراراً. يخلص دريدا إلى أن الراديكاليّة المتطرّفة التي يثيرها شك آلان ربما كان سيدينها معلمه ديكارت.  وحيث كانت هناك نهاية لشك ديكارت المنهجي، فإنّ شكَّ آلان لا ينتهي.
ويؤكد دريدا أن آلان سيكون ديكارتياً أكثر من ديكارت نفسه. ومع ذلك، بعيداً عن أن يرى فيه صدمة بسيطة من التكرار، يعرّف دريدا هذا البحث اللامتناهي من خلال إدراك أنَّ الشكَّ له قيمة في حد ذاته وأنه خلاص الفكر ذاته، أكثر من كونه أداة له. تتركنا هذه المناسبة لقراءة لحظة من كتابات دريدا التي سيصبح شكلها أنموذجياً لمؤلفها والتي ستثير بلا شك مترجميه:
«والحالة هذه، إنَّ شكوكيَّة آلان، هي أنّها عندما تعطي مقياسها، لم يعد للشكوكيّة أي مقياس.
إنّها بلا قياس، ولا تقاس، مدمّرة.
وبمقياس هذه المغالاة تقاس الحقيقة.
لا توجد حقيقة إلا بقدر الشكوكيّة.
هذا ما يفسّره هذا النص من حيث الجوهر، إذ يبدو الإخلاص للروح الديكارتيّة خيانة لروح
ديكارت”. 
يذكر دريدا بالقول لا، من الضروري أنك تريد ذلك. 
وهذه الإرادة تنبع من التأكيد، الذي يقول نعم لقيمة وإرادة الحقيقة ذاتها.
لذلك من الضروري أن نؤمن قبل أي شيء. بعبارة أخرى، أنَّ الفكر، وللتأكد من كونه فكراً، والتأكد من كونه على طبيعته، أن يكون قادراً على قول نعم قبل أن يكون قادراً على قول لا.
في القسم الثاني، يتجاوز دريدا صيغة آلان.
هنا، من خلال تتبع حدود تفكير آلان، ينشر دريدا آليات الكتابة التفكيكية المستقبلية إذ تتخلى هذه الـ «نعم»، التي تقول بـ لا، عن لباسها الساذج  لتأخذ مظهر الإيمان.
فضلاً عن ذلك يلاحظ دريدا أن قول نعم يعني التحدث وأن فعل الكلام هذا يتعارض مع أي اعتقاد ساذج وموضوعي للوجود.
بالنسبة إلى آلان، إذا فتحت كلمة «لا» مساحة للنظريّة القيميّة، فإنَّ «نعم الإيمان» يؤسس هذا الفضاء نفسه.
ينتقل دريدا بعد ذلك إلى فحص دقيق لمعنى وقيمة نعم الإيمان القيميَّة.
أخيراً، يتناول القسم الأخير النطاق العام لكل هذه الأسئلة من خلال توجيه القارئ إلى السؤال المزدوج حول أصل النفي وأسبقيَّة التأكيد الأكسيولوجي. بعد مراجعة موجزة لتاريخ النفي، من أفلاطون إلى هيجل عبر كانط وحفنة من المناطقة، يطيل دريدا التوقف عند مسألة العدم من خلال بيرجسون لإعادة التأكيد، على وجه الخصوص، على التناظر المستحيل بين نعم ولا. 
ومن خلال مواجهة هوسرل بالبرجسونيّة، سيثبت دريدا أنه، حتى لو جاءت الإجابة بنعم قبل الرفض، فهناك دائماً إمكانية النفي قبل الحكم (تكوين الرأي) وقبل اللغة. 
وبعد أن يتفق مع سارتر على أفضل تحليل لأصل النفي، كان دريدا مهتماً بالتوبيخ الذي وجهه الأخير إلى هوسرل بشأن هذه المسألة.
ينتهي هذا النطاق العام أخيراً بالإشارة إلى هايدغر وإلى اختلاف في علم الوجود الوجودي الذي «من شأنه أن يسمح لنا بسماع آلان حقاً عندما يقول: «أن تفكر يعني أن
تقول لا». من السهل أن يفهم القارئ عند قراءة هذا النص، أن دريدا يرى أولاً في صيغة آلان الفرصة لعرض مزدوج يفوق اختلافه الفرق بين الثنائي البسيط (نعم ولا).
وفي مكان آخر يذكر دريدا أن الرفض بالتأكيد ليس متماثلًا مع نعم. ربما تكون هاتان الكلمتان الصغيرتان أقرب إلى مزدوج آخر وجه دريدا انتباهه إليه بعد عشر سنوات، وهما الحياة / الموت حيث يسعى دريدا أيضاً إلى التأكيد على التمييز بين هاتين الكلمتين من خلال منطق من دون معارضة الاختلاف. أن تفكر يعني أن تقول لا، فضلاً عن حقيقة أن هذا النص يكشف عن علامات الكتابة التفكيكيّة التي سبقت نشر النصوص التأسيسيّة، يظهر أيضاً أن فكرة «نعم لا» يبدو أنّها كانت دائماً أساسيّة في فكر دريدا. ربما تأخذ اهتمامها كل نطاقها الكامل اليوم، في وقت يصعب فيه في كثير من الأحيان صنع أو قول الفرق بين الفكر
والمعتقد.