التكوين الموسيقي في شعر رشدي العامل

ثقافة 2022/06/20
...

  د. فؤاد مطلب
المتتبع لشعر الراحل رشدي العامل يتلمسُ ملمحاً بنيوياً يشتغل في المنطقة البينيَّة للصوت والمعنى أو الصوت والدلالة.. وهذا الملمح البنيوي يمكن أن نطلق عليه اسم {التكوين الموسيقي} وأقصد به تلك الخطاطة أو الـ scheme التي تمنح شعر رشدي العامل بصمة خاصة تنماز من بقية البصمات الإبداعية الأخرى لأبناء جيله من الشعراء الخمسينيين. 
 
فقد عمل رشدي العامل إبداعياً على هندسة الرسالة الموسيقيَّة لنصّه الشعري بحسب مقتضيات نموذج "ياكوبسون" للاتصال ولنستمع إليه يقول في أحد مقاطعه الشعرية:
"هل أسميك لا يقدر الاسم أنْ
يمحض الحب
لا يعرف الحب سوراً
ولا يملك العاشقون الثمن"
ونحن لو تأملنا هذا المقطع بحسب خطاطة ياكوبسون فسوف يكون الباث معبراً عنه في هذا المقطع.. إنَّه الصوت المتسائل هنا أنَّه من يسأل عن التسمية، ولكنَّ التكوين الموسيقي في هذا المقطع ينبني على شكلين؛ الأول ظاهري محكومٌ بعدد التفعيلات ونظامها الخليلي، والآخر شكلٌ عميقٌ يشتغل بالتحايث مع نموذج ياكوبسون، فمع أنَّ الشاعر أوقف السطر عند أداة النصب (أنْ)، إلا أنَّه يطالبنا بالقفز على التكوين العروضي باتجاه التكوين الموسيقي الأكثر وفاءً للمعنى، إذ يجد القارئ نفسه مُطالباً بألا يتوقف عند النهاية الموسيقيَّة للسطر، بل ينطلق باتجاه إكمال المعنى الذي ينتظر التحقق في السطر الثاني والمتمثل في جملة (يمحض الحب) التي تمنح التكوين الموسيقي دفقة إضافيَّة تدفع بنظام التفعيلات السيمتري الى أنْ يتجاوز عقبة حدود الكتل الموسيقيَّة الصارمة والمعمولة بعناية فائقة لتكون قوالب صوتيَّة جاهزة باتجاه كتل موسيقيَّة تنجذب طوبوغرافياً للمعنى مع عدم نسيانها لوظيفتها الموسيقيَّة الأساس.
إنَّ مثل هذا التكوين سنجده يتردد كثيراً في شعر الراحل العامل يقول الراحل مخاطباً العراق:
"أنت لا تغمض الجفن
لا تطبق العين
لا تُمحى يا عراق"
فبحسب التكوين الموسيقي الاتصالي يقرأ المتلقي المقطع الأول متوقفا عند (أنت لا تغمض الجفن).. مع أنَّ آخر تفعيلة بحاجة الى سببٍ خفيفٍ لكي تكتمل (فاعلن) تامَّة، لكنَّ الشاعر يريد من القارئ أنْ يقرأ النصَّ بحسب التكوين الموسيقي للنص وليس بحسب النظام العروضي وإلا لأضاف الحرف (لا) في جملة (لا تطبق العين) الى السطر الأول لانتمائه إليه عروضياً لا تكوينياً.. وقد يكون التكوين الموسيقي للمقطع متجاوزاً على القراءة العروضيَّة بالزيادة أو النقصان كما رأينا في المقطعين السابقين..
ومن ملامح التزام الراحل العامل بالتكوين الموسيقي المنتمي لنموذج الاتصال الياكوبسوني هو أثر البعد التداولي البراغماتي الواضح في اعتماد المعقوليَّة العالية والانضباط في إيصال الرسالة الشعريَّة وهذا ما يمكن أنْ نلحظه في قصيدة (رمال المرفأ)، فمع أنَّ القصيدة تبدأ بحوارٍ بين اثنين قادمة من باريس إلا أنَّ العامل وبفعل التزامه الفكري الإيديولوجي لا يسمح للعلامة اللغويَّة أو الدال (sign) أنْ ينفلت أو يتحرر من مدلوله فما أنْ نقطع بضع سنتيمترات في عمق القصيدة حتى نكتشف أنَّ القادمة ليست أنثى مثلاً كما قد يتبادر الى الذهن أوَّل وهلة ولكنها رسالة من مغتربٍ عن الوطن ليذهب الشاعر بعد ذلك الى تصويرٍ جيوسياسي أدبي لعمق المحنة التي يمرُّ بها الإنسان العربي وهو يعيشُ حالة الاغتراب في مكانٍ تكون فيه واقتبس
"الشمس غائبة وراء الأفق 
تحجبها الجبال
الشمس زائفة بلا دفء
وخبز الأرض يبرد في السلال"
إنَّ هذا النص هو تجسيدٌ آخر لميل العامل الى كتابة جملته الشعريَّة بدقة عالية من غير أنْ يزعج القارئ في مشكلات تردد الإرسال اللغوي أو مشكلات التشويش الحاصل في البث الشعري..
في قصيدة (أسئلة) يحافظ العامل على التكوين الموسيقي الخاص به مع الاطمئنان على إضفاء قدرٍ من المعقوليَّة في نصوصه ليمده جسراً بينه وبين المتلقي فهو يقول في المقطع الأول من القصيدة:
"قالت ماذا تفعل لو غبتُ الآن؟
فقال أحدق في كل نجوم الليل،
وحين أشاهد أحلى نجمة صبح،
تومض في الفجر، أراك"
والآن لننتبه الى تكوين الشاعر الموسيقي المتيقظ الى ضرورة الإبقاء على قدرٍ من المعقوليَّة ليمتد جسراً موصلاً بين الباث والمستقبل، ففي السطر الأول قال الشاعر (قالت ماذا تفعل لو غبت الآن؟) وختم السطر ظاهرياً بعلامة استفهام ولكنه لم يرد للقارئ أنْ يتوقفَ عند هذه النهاية الظاهريَّة فجعل بداية تفعيلة الخبب تنتهي في السطر الأول وتحتاج الى سببٍ ثقيلٍ آخر مع سببٍ خفيفٍ لتكتمل تفعيلة الخبب مع أنه يستطيع أنْ يوقف السطر عروضياً وتكوينياً موسيقياً على كلمة الآن بزيادة سببٍ خفيفٍ على التفعيلة ليبتدئ بجملة جديدة في سطرٍ جديدٍ يمكن أنْ يبدأها بـ"قال أحدق في كل نجوم الليل" ولكنه أبى في المقطع الأول إلا أنْ يلتزمَ بوجود الفاء العاطفة (قالت.. فقلت) ليطمئن على وصول الرسالة بشكلٍ سليمٍ وواضحٍ للمتلقي وحينما يطمئن على وصول الرسالة بشكلٍ سليمٍ نراه يتخلى عن الفاء العاطفة في المقطع الثاني لأنَّه كان قد خطط الدرب جيداً للمتلقي في المقطع 
الأول..
لذلك نراه يقول في المقطع الثاني
"قالت ماذا تفعل لو رحلت قدماي الى مدنٍ لا تعرفها عيناك؟
قال أشد جبيني،
أرحل في كل زوايا مدن الأرض،
وأبحر في كل بحار الدنيا
كل سنين العمر 
وفي ذات صباح،
أفتح عينيَّ فألقاكِ"
والآن لنرجع الى هذا المقطع ثانية ماذا قال في السطر الأول وبداية السطر الثاني؟
قالت ماذا تفعل لو رحلت قدماي الى مدنٍ لا تعرفها عيناكْ- بتسكين الكاف في (عيناك)-
قال أشد جبيني.. الخ
لقد كان الشاعر يستطيع الإتيان بحرف الفاء العاطف هنا أيضاً.. ولكنَّه لما اطمأن الى وصول الرسالة الشعريَّة آثر التخفف من المعقوليَّة او البراغماتيَّة قليلاً..
بقي شيءٌ أخيرٌ أودُّ أنْ أعلقَ عليه في هذه القصيدة وفي عموم نصوص الراحل ألا وهو استعماله الحذق لعلامات التنقيط.. فالفوارز هنا كما أثبتها الشاعر أدتْ دورها التكويني الموسيقي في إبطاء أو تسريع الإلقاء علاوة على تأدية دورها المتعلق بالجنبة الدلاليَّة والمعنويَّة.