حمّامات النساء.. أسرار واستذكارات

ثقافة 2022/06/20
...

 ميرا يوسف
 
من الأمكنة الأليفة التي تشغلُ مساحة مهمّة وساطعة وخاصة في المخيال الجمعي والذاتي، مكان يحاط بالكثير من الغموض والسحر والحكايات الاستراريّة.. مكان شكّل في أزمنة ما أحد أهم الفضاءات التي تتمظهر وتتشكّل فيها الحكايات عن الجمال والأناقة والأنوثة، وهو: (حمّام النساء) الذي عادة ما يكون بناية صغيرة لا يلتفت أحد إليها وإلى وجودها الفريد في زحام الأماكن التي تنتمي (للذكور) وتسجّل بكناياتهم وألقابهم في سوق العمل.. بناية مختلفة ومائزة يعرفها ويتجاهلها الجميع في آن واحد لأنّها تنتمي للمرأة جملة وتفصيلاً، وهي عادة ما تهجع في شارع منزوٍ لا تطال بابه الموارب دائماً أعين المارّة الفضوليَّة، تتلفّع النسوة بالعباءات السوداء وهنّ يحملنّ تحتها ملابسهنّ الجديدة والعطور و (الديرم) و(اللّيف) و (صابون الركَي) ويلجْنَ بابها بحذر مشوب بفرحة الترقّب للخروج منه بوجه جديدة وروح جديدة.  
في مدخله تجلس سيدة، عادةً ما تكون بدينة وبملامح حادة تنظّم سير المستحمّات إلى غرف الغسل أو أحواض الماء البارد والساخن.. البخار ورائحة الماء المعطّر بأنواع الصابون مع روائح كثيرة أخرى هي جزء من روح الفضاء وعالمه وألوانه، أما لغط النسوة الذي لا ينقطع فقد دخل الأمثال الشعبيَّة: (حمّام نسوان)، وربما يعود المثل أيضاً إلى صوت (القبقاب) المصنوع من خشب صقيل وثقيل.. لذا يكون صوته مسموعاً جداً عند المشي على بلاط الحمام، ويزيد من ذلك أنَّ المكان مغلق فيتكاثف ويتضخّم فيه الصوت. 
عند الشارع المقصود بدت واجهات المحال والأعمدة والأرصفة لا تعرفني.. غريبة كنت فوق العادة، حتى وأنا أحاول أن أتصفّح تلك الأجزاء السورياليَّة التي بقيت ملامحها الملطخة بدخان عوادم السيارات وآثار بصمات أصابع المارة، وكأنّها رسائل ملغزة.. الشارع الذي ابتلع خطوات الحالمات بالعطور والدشاديش المورّدة بألوانها الخلّابة وهي تخفي سحرها تحت عباءات سود.. كان باب حمّام النساء موصداً رغم تسلل الهواء عبر ثقوب حيطانه المحتقبة لزمان سالف وحكايات تضارع في حلاوتها حكايات ألف ليلة وليلة.   
هكذا يبدو الواقع اليوم في الرصيف المقابل لسوق محلة الصدريَّة ببغداد، حيث الحمام الشعبي الذي كان ينبض بالحياة مع أصوات النساء والبنات الصغيرات، إذ كان عليك أن تصرخ إذ أردت أن تروي قصّة ما، فالكلّ يحكي مع الكلّ في مشهد ممسّرح غريب وضاج بالحياة من الحوارات الغرائبيَّة التي تنمو وتزدهر في فضاء الحمام..  إنّه انعكاس رائع للعلاقات الاجتماعية الأليفة، فهو مكان للحوار المفتوح في بيئات تقمع المرأة ولا تترك لها متنفّساً، لذا فهو ينظّف الروح من صمت كثيف يثقلها مثلمها هو ينظف الجسد من أدرانه.     
هذا التوليف اللافت للأشياء هو ما أفكّر فيه كلما توقفت أمام صور الحمامات الشعبيَّة القديمة وملحقاتها، وبشكل أكثر دقة، عندما استرجع هواجس هذه الصور، خاصة إذا اعترفنا لأنفسنا أن ذكرياتنا عن الأماكن والمساحات غالباً ما تكون عرضة لتشويهات ومبالغات تشعرنا بالسعادة عندما كنا أطفالاً، فهي ذكريات حية وواضحة وبعيدة وحاضرة وشاخصة.
الصور التي تحاول أن تمسك بالحياة في لحظاتها المفعمة بالجمال نادرة، فمن يجرؤ أن يدخل حمّاما للنساء، ولكن أرشفة المكان من دون المكين ممكنة جداً، إذ تصور جزئيات الحمام، دكّة الغسل، الزخارف والشناشيل التي تحاول أن تتناغم مع ماهيَّة المكان، صور تعلّب الأواني النحاسيَّة التي كانت تحمل الماء إلى رؤوس وأجساد النساء، أواني بحوافٍ منتظمة وأخرى تنتأ منها بروزات بأشكال مختلفة وكلها تحكي عن لحظات مضت وزمان زال!. 
الفوتوغراف الذي من تعريفاته (الرسم بالضوء) ينجح في حفظ الضجيج وحفظ الايقاعات التي كانت تتموسق في الحمامات، أصوات الجميلات وهي ترتطم بكل الموجودات فيعود الصدى وهو محملاً بالحياة التي تحترف الزوال، صور شتى توثق لحياة ابتلعها التطور وغيَّرتها التكنولوجيا، ولكنَّها ماتزال حاضرة في الذاكرة وتخزها كلما تنسى.
في لوحة للرسامة الراحلة وسماء الأغا (1954 - 2015) يظهر حمّام النساء في صخب لوني مبهر، وجوه جميلة مشرقة تنبض بالحياة، ألوان الشعر، الأسود الأحمر، الأشقر، تتناغم مع لون الماء الأزرق الذي بدا مثل مرآة كبيرة تعكس النظرات الوديعة الحالمة، بينما الحركة، حركة الأجساد في أنحاء والتفات ودوران تجعل الحياة تسري في عين الناظر، فتقحمه ذلك العالم الأثيري، حيث الانهمام بالجمال هو الهمّ الوحيد، هو الجدوى الوحيدة في عالم مختلف (خارج الحمام)، لذا بدت اللوحة وكأنّها تثبيت لشرط الحياة بجمالها التام من خلال حضور الأنوثة الفعّال في كلّ زاوية من هذا المكان الوارف جداً والخصب جداً.