هيمنة الذات وكشوفها الشعريَّة

ثقافة 2022/06/22
...

 د. علي حداد
 
(1)
بادرت نازك الملائكة لتقديم منجزها الإبداعي والآخر النقدي من رغبة عارمة في مواجهة (الذكورة) الثقافيّة المهيمنة على المشهد الأدبي العراقي، فسلكت فيهما مسارين بدت سمة التضاد بيّنة عليهما، مع أنّهما ينطلقان من ذات واحدة، وينتهجان نوازعها الذهنيّة والشعوريّة.
لقد وجدت الملائكة نفسها في خضم نسق إبداعي ذكوري مهيمن فواجهته بثقافة إبداعيّة أنثويّة، عدّها الغـذامي (مشروعاً لتأنيث القصيدة). أما ما رأته من توطد لجديد الكتابة النقديّة الذكوريّة فقابلته بخطاب نقدي يتقمّص الذكورة ذاتها ويجاريها في أدواتها واشتغالاتها. 
كانت الشاعرة قد أعلنت ـ وابتداء من عنوانات مجموعاتها الشعريّة ـ عن تمركز رؤيتها في حقل الأنوثة قبل أي شيء آخر، فجعلت لدواوينها كلها عنوانات بتوصيف أنثوي: (عاشقة الليل - 1947)، (شظايا ورماد - 1949)، (قرارة الموجة - 1957)، (شجرة القمر - 1968)، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان - 1970)، (للصلاة والثورة - 1978). وكان الديوان الوحيد الذي تضمن مفردة مذكرة هو: (يغير ألوانه البحر - 1977)، ولنا أن نلاحظ كيف أنها ـ مؤكدة نسق الهيمنة الأنثوية الذي احتكمت إليه ـ أقصت الفاعل المذكر (البحر) إلى آخر الجملة. ولم تكن عنونة مجموعتها القصصيّة الوحيدة بعيدة عن هيمنة النسق الأنثوي، إذ هي: (الشمس التي وراء القمة 1997).
أما مضامين شعرها فلا يختلف النقاد على انضوائها في الاشتجار الذاتي الأنثوي، إذ أجمعت دراساتهم التي تناولت شعرها بسماته الفكريّة والجماليّة على تميّزه بانشداده إلى خصوصات لا يكاد يغادرها حتى يعود ليجد طمأنينته الأدائيّة فيها. فما يهيمن عليه جملة من الانشغالات الشعريّة المغرقة في الذاتية تلك التي انتهجتها، ليستحيل ذلك مساراً من التخيّر الشعري صار دالاً عليها وحدها، قوامه ـ طبقاً لقراءة الدكتور جلال الخياط ـ اليأس والألم، واستعادة الماضي وإثارة ذكرياته والبحث عن حرية لا تجد لها تفتحاً إلا في الشعر، فأمست بكّاءة لا تكف عن رثاء ذاتها. وأمسى شعرها تجربة تكرر نفسها في أكثر القصائد، لأنّها شكت وبكت، وتأوّهت، ولم يتطور الحزن عندها إلى أشكال فنيّة مبدعة، كأن تخلع إحساسها بالألم على الآخرين فتصور بؤسهم ومشكلاتهم ومآسيهم.
ولعله ـ ونتيجة لذلك ـ بدت تجربتها الشعرية في كثير من المواجهات القرائية منقطعة إلى تفردها وحدها، فهي لم تستطع أن تصنع لها مريدين، حتى لدى بنات جنسها ـ بوصف تجربتها ذات طبيعة أنثوية ـ فنحن قادرون بيسر أن نجد من تأثر بتجربة السيَّاب، ومثله بالبياتي، ولكن العين لا تكاد تقع على أي شاعر ـ أو شاعرة ـ تحدث عن تأثره بتجربة نازك الشعريَّة.
 
(2)
 حين يندُّ الحديث عن ريادة التجربة الشعريّة الجديدة التي شاركت الملائكة زملاءها الذكور فيها ـ فإنّ حصتها منها لا تكاد تتجاوز حضورها في البعد التاريخي لها الذي سبقها إليه (السياب) بخطوات مؤكدة. غير أن ما يحسب لها منها أنها عززت تجربتها في التجديد بوعي تنظيري مبكر راحت تبشّر به ومن خلاله. ولكنها ـ وقد تأكد لها تصاعد مسار التجديد، ليذهب بعيداً عما أرادته هي له ـ لم تواصل المسعى، بل تجافت عن كثير من أطروحاتها فيه، ليصار الأمر إلى مراجعة منجزها الشعري والنقدي معاً، فيؤشر عليها نقضها لوعيها الذي انطلقت منه في الوجهة التجديديّة، والقول بنكوصها عنه، وتبنيها لمواقف تقنينيّة راحت تحاكم باشتراطاتها ذلك التجديد وتسحب عنه كثيراً من قناعاتها السابقة فيه. لقد تكاملت لنازك المدركات المعرفيّة والثقافيّة، بعد أن أتيح لها أن تواصل دراستها الأكاديمية خارج العراق. وكان من المنتظر أن تعود بما يضاف الى رصيدها التجديدي الذي توافرت عليه سابقاً، ولكن الأمر جاء مغايراً للمنتظر منها، إذ راحت تطالب بوقف ذلك المد من التحديد، ملقية به في مواضع المساءلة والتقريع والإدانة، وهو ما عرّض ادّعاءاتها إلى مجادلة شاكة، وألصق بها تهمة التراجع، وأجبرها على الدفاع عن مواقفها السابقة واللاحقة.