نازكُ الملائكة.. المُغامَرةُ المُقيّدةُ

ثقافة 2022/06/22
...

 محمد صابر عبيد
على الرغم من مرور عقود كثيرة بصخبها وحراكها وتحولاتها الثقافيَّة والفكريَّة، بقيت نازك الملائكة في بؤرة الحراك، فاعلة ومؤثرة على الرغم من هجرتها وغيابها المكاني، ولعل مزاحمتها في ريادة الشعر من أهم أسباب حضورها الطاغي، فضلا عن أطروحاتها وخطراتها النقدية المهمة التي أشرتها ناقدة من طراز رفيع.. نازك امرأة عاشت الشعر فكتبته بعفوية كبيرة على الرغم من أن منافسة السيَّاب والبياتي وغيرهم جعلتها أحيانا تقصد مساحات شعريَّة جديدة، والبحث عن مناقبها في نتاجها تكفلت به العديد من الدراسات والبحوث التي سبرت غور عالمها الشعري والنقدي.. ولكن يبقى دائماً ما يمكن أن يقال في ذكراها فهي المؤسسة والمحرِّضة لأجيال من النساء على اقتحام عالم الشعر..  الملائكة الشاعرة والأكاديميَّة والإنسانة حالة ليست عابرة في الثقافة العراقيَّة والعربيَّة، هي مفازة لا بد من الإشارة إليها عند الحديث عن الشعر والأدب والشجاعة فهي المغامرة التي اقتحمت عالم الشعر في بيئة شرقيَّة ذكوريَّة.
يرتبط اسم الشاعرة الرائدة نازك الملائكة على صعيد الحداثة الشعريّة العربيّة في افتتاح فجر جديد للقصيدة العربية باسم الشاعر الرائد بدر شاكر السيّاب، وكان صراع تزعّم الريادة نهاية الخمسينيّات بين الشاعرَين على أشدّه؛ إذ ادّعى كلّ منها إحراز قصب السبق في نشر قصيدته الجديدة، بين قصيدة نازك «الكوليرا» وقصيدة السيّاب «هل كان حبّاً»، وبصرف النظر عن قيمة هذا الصراع وما نتج عنه من عدم حسم في ذلك؛ فإنّ نازك الملائكة بلا أدنى شكّ كانت الأكثر وعياً من السيّاب في خوض هذه المغامرة على المستوى النظريّ والتقاني، بدليل حضورها النقديّ في الدفاع عن هذا الأنموذج وتبنّي أسلوبه الشعريّ الجديد في الكتابة الشعريّة.
ما لبث هذا الصراع على الزعامة التاريخيّة لقصيدة التفعيلة أن هدأ بعد أن تكرّس الأنموذج الجديد وتوسّعت حدود الريادة، حتّى احتوت في مرحلتها الأولى الأربعة الكبار المعروفين (نازك والسيّاب وعبد الوهاب البيّاتي وبلند الحيدري)، وثمّة من يضيف إليهم الشاعر شاذل طاقة، في حين اتّسعت أكثر في المرحلة الثانية ذات الطبيعة «الفنيّة» كي تشمل أدونيس ونزار قباني وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وفدوى طوقان وغيرهم، غير أنّ لواء الريادة على الرغم من ذلك ظلّ معقوداً لنازك والسيّاب على نحو خاصّ.
انفردت نازك الملائكة بما يمكن أن نصطلح عليه في حدود هذه الرؤية «المغامرة المقيّدة» حيث انطلقت في البداية مع الشكل الشعريّ الجديد ودافعت عنه، لكنّها بدأت بعد ذلك بوضع القيود النظريّة التي يمكن أن تحدّ من قوّة الانطلاقة نحو الفضاء الشعريّ الجديد، وربّما كان لهذا الموضوع دوافع ذاتيّة وموضوعيّة قد تحتاج إلى قراءة وبحث وإعادة نظر ذات طبيعة منهجيّة واضحة، غير أنّ ما ينبغي الالتفات إليه هو أنّها لم تتوقّف شعريّاً عن انتهاج هذا النهج الشعريّ الجديد في الكتابة، على الرغم من تشديدها على ما تحسبه أخطاءً لزملائها في استدراكات فنية وإيقاعية كثيرة سجّلتها على زملائها الثلاثة المنضوين معها تحت خيمة الريادة.
لعلّ الأكثر إلفاتاً للنظر النقديّ والثقافيّ في مغامرة نازك الشعريّة هنا هو فرضها لنسق جديد في الشعريّة العربيّة هو «النسق الأنثويّ»، فلم تقدّم لنا الشعريّة العربيّة قبل نازك الملائكة شاعرة تحتفي بأنوثتها وقضاياها الخاصّة؛ بعيداً عن فضاء الفحولة والذكورة الذي هيمن على هذه الشعرية زمناً طويلاً، إذ تجلّى في شعرها كثير من التفاصيل الأنثويّة التي تُظْهِرُ وجع الأنثى وانكسارها وحيرتها وقهرها واهتماماتها الأنثويّة الصغيرة، على النحو الذي أسّس متناً جديداً وأصيلاً في الشعريّة العربيّة الحديثة، فإذا كانت نازك الملائكة على المستوى الفنيّ التقانيّ لم تبلغ ما بلغه زملاؤها في الاشتغال على طبقة الحداثة بالجرأة والمغامرة المطلوبة، وكانت حذرةً في ذلك حين قيّدتْ نفسها بأحوال فنيّة ما كان لها أن تفعلها كي تنتمي إلى الحداثة الشعريّة انتماء مطلقاً، لكنّها تمكّنت في الجانب الثقافيّ الأوسع من ابتكار متن جديد يحقّق لها الريادة الكليّة، بجانب المَتنَين الأصيلَين الآخرَين «السيَّابي والأدونيسيّ»، حيث تتمخّض تجربة القصيدة العربيّة الحديثة عن هذه المتون الأصيلة في الشعريّة العربيّة الحديثة فقط.
فلو أخذنا على سبيل المثال قصيدة نازك «الخيط المشدود على شجرة السرو» بما تنطوي عليه من بنية سرديّة ذات طبيعة دراميّة، لاستطعنا الوقوف على حيويّة التفاصيل الأنثويّة داخل جوهر الحكاية التي ترويها الشاعرة في طبقات هذه القصيدة، إذ استدعت كثيراً من التفاصيل التي حوّلت الفضاء الرومانسيّ إلى طاقة شعريّة ثريّة، ولم تكن رومانسيّةً مجرّدةً عابرةً تُهوّمُ في مجال شعريّ فارغ؛ بل انطلقت الرومانسيّة على وفق رؤية شعريّة تفجّرت فيها الحساسيّة الأنثويّة للشخصيّة العاشقة داخل حكاية القصيدة، وتدفّقت شبكة من التفاصيل الأنثويّة الخاصّة المرافقة لتجربة الخيط المشدود على شجرة السرو، وما أحاط بهذا الخيط من كثافة تعبيريّة وتشكيليّة في فعاليّة التكرار والاسترجاع السرديّ والتطوّر الحَدَثي للمحكي الشعريّ.
يحتاج الأمر للبرهنة على هذه الفرضيّة المتعلّقة بأنثويّة الخطاب الشعريّ لدى نازك الملائكة بوصفه متناً أصيلاً إلى دراسة إجرائيّة موسّعة في تجربتها الشعريّة، تستخدم أدوات منهجيّة فاعلة في المجال الفلسفيّ والثقافيّ والنفسيّ والأدبيّ على نحو عميق، بوسعها أن تكشف وتكتشف الرؤية الأنثوية التي تحرّك الطاقة الشعريّة عند نازك بوعي يتقصّد ذلك، فحضور القصديّة هي التي تؤهّل هذا المتن كي يكون أصيلاً كما هي الحال لدى قصديّة السيّاب في تمثيل تجربته الروحيَّة الطاغية في متنه الشعريّ الأصيل، وقصديّة أدونيس في استحضار طاقة الإبهار والمهارة والصنعة الشعريّة لتمثيل الرؤية التشكيليّة التي يشتغل عليها في متنه الأصيل، ومن دون القصديّة فإنّ الحالة يمكن أن تندرج في سياق العفويّة الشعريّة التي يستحيل عليها إنتاج متن أصيل.
لا شكّ في أنّ صورة «المغامرة المقيّدة» التي افترضناها لمقاربة العمليّة الشعريّة التي اشتغلت عليها نازك الملائكة لها علاقة وثيقة بهذه القصديّة من حيث مبدأ الوعي، بمعنى أنّها تعرف ماذا تفعل ضمن حسابات لا تتلبّث عند الحدود الدنيا للإنجاز؛ بل تتجاوز ذلك نحو فضاء يخضع لرؤية معرفيّة متقدّمة تخوض في المغامرة لكنّها تضبط إيقاع الحركة داخل حساسيّة المغامرة، بما يضمن الوصول إلى المقصد والهدف على النحو المناسب والضروريّ والمطلوب.