ما الأدب؟.. أربع مقدمات وأربعة فصول سارتريّة

ثقافة 2022/06/22
...

 وارد بدر السالم
على غير العادة في الكتب المترجمة، حمل كتاب سارتر (ما الأدب؟) أربع مقدمات شارحة، قد يجد بعضهم شيئاً في أهميتها لإيضاح ما التبس من طروحات أدبيّة كانت سائدة في أربعينيات القرن الماضي، لا سيّما أن هذا الكتاب ترجم لأكثر من مرّة منذ ظهور طبعته الأولى وعانى في الترجمة الى العربية من إشكاليات كثيرة أوضحتها بعض المقدمات الساندة للكتاب. 
وتأتي هذه الترجمة من قبل المترجم كامل العامري، عن الفرنسية مباشرة، وهي ترجمة كاملة لهذه الخلاصات السارترية كما أشارت جملة لافتة على الغلاف. وقد نجد الكتاب بصورته الحالية أكثر اكتمالاً من غيره من الترجمات السالفة. ومن ثمّ فإن الوقوف على المقدمات الأربع سيعطينا فسحة مباشرة للتعريف بالكتاب من دون الدخول في فصوله التالية التي شغلت مساحة كبيرة منه. ويفترض بأنّها معروفة للقارئ القديم.
 
(2)
دار نشر سطور التي حصلت على حقوق الترجمة، أوضحت بأنّ الترجمتين السابقتين لجورج طرابيشي ومحمد غنيمي هلال كانتا غير مرخّصتين من دار غاليمار الفرنسيَّة، وأن ترجمة غنيمي ( تفسيريّة غير ملتزمة بالنصّ، بل تبتعد عنه كليّاً) أما ترجمة طرابيشي فهي (حرفيّة تماماً، فضلاً عن أنه جاء بدراسة ليست من صلب الكتاب، وأهمل ترجمة الفصل الرابع) ومن ثمّ فهو كتاب ناقص المعرفة. لذلك أوكلت المهمة الى المترجم العامري بأن يفتح باب “ما الأدب؟” بمفاتيحه السارتريّة الأساسية الأصلية.
اللافت أن المترجم العامري لم يفصّل هذه الالتباسات والخروقات في الترجمات السابقة في مقدمته الطويلة. بل ترك الأمر لدار النشر التي وجدت في الترجمتين السابقتين عيوباً جوهريّة، أضرّت  بالمفاهيم التنظيرية السارتريّة. ومن ثمّ  فإنّ التثقيف العام منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن على هذا الكتاب وآرائه كانت تعوزها الدقّة والاكتمال في المفاهيم التي طرحها سارتر حول الأدب الملتزم والكتابة والقراءة واكتفى بما أوضحته دار النشر من التباسات ونقص في الكتاب، كما اكتفى  بعرض الكتاب بفصوله الأربعة والوقوف على مميزات التنظير السارتري في فلسفته القائمة على فهم الأدب من منظور سياسي، مثلما هي (دفاع مثير عن الأدب الملتزم) تحت سؤال: ما الكتابة؟ وفي توفير بعض الأدلّة الفنيّة شعراً ونثراً وفناً وموسيقى، يصل إلى أن الكتابة هي (الكشف) وأن مثل هذا الكشف هو لتأكيد أنّه (لا يمكن لأحد أن يتجاهل العالم) أما (لماذا نكتب؟) فمرجعيَّة السؤال إبداعيَّة أساساً وهي (الحاجة إلى الشعور بأنّه “الإبداع” أساسي للعالم).
 
(3)
أما المقدمة الثالثة التي كتبها “ارليت إلكايم سارتر” فهي شارحة لموضوعة الفصول والمقالات التي كتبها سارتر في مجلة “الأزمنة الحديثة” عام 1947 ومسبّبة عامة لكتابة هذه المقالات مع إثارتها السياسيَّة والفنيَّة في طرح أسئلة من قبيل: ما الأدب؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ ودعوة سارتر إلى الأدب الملتزم؛ وهي دعوة قديمة نشأت في تضاعيفها أجيال أدبية ثمّ تخلّت عنها في حياة متشابكة أيديولوجياً وسياسياً. 
وبقي الأثر السارتري أرشيفاً ثقافياً ومرحلياً يعبّر عن مرحلته الشائكة، كون سارتر فيلسوفاً ومنظراً أدبياً ولم يكن عابراً في الثقافة الفرنسيّة ولا العالميّة. لذا فإنَّ “إلكايم” يغور نسبياً في الموقف السارتيري بمقدمته المبتسرة؛ محيطاً بالظروف العالميّة التي كانت سائدة في أربعينيات القرن الماضي سياسياً وعسكرياً وثقافياً، عندما كان صوت سارتر عالياً وهو يناقش الموقف الملتزم في الأدب، عبر مجلة “الأزمنة الحديثة” وما واجهه من انتقادات. غير أن سارتر (حاول كسر منطق الحرب) من دون (أغفال الأمل بالثورة) في صوت فردي يحيلنا لاحقاً الى منطق اليسار الطفولي السائد وقتها، في بيانات واحتجاجات كانت فاعلة نسبياً، لا سيّما بما طرحه سارتر عبر الأدب الملتزم وضروراته الثوريّة في تعبئة الثقافة لمواجهة الحرب والاحتلال.
 
(4)
في المقدمة الرابعة وهي مقدمة المؤلف- سارتر وكانت مقتضبة جداً، حاول فيها أن يستعرض قليلاً الانتقادات اللاذعة التي كيلت له بعد دعوته الى الأدب الملتزم، ومحاولة تخليصه من الشعارات الفضفاضة وقد وصفها بـ (الحماقات) لكنه يصرّ على طرح الأسئلة حتى في مراحل لاحقة من تطوره الفكري والفلسفي: ما الكتابة ؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ هذه الأسئلة التي تقع في صلب الثقافة العامة والأدب بشكل خاص، تُشرك القارئ أيضاً الذي كان عليه أن يكون شريكاً فاعلاً، لا مجرد قارئ عابر، ومن ثمّ فإنَّ العملية الإبداعيّة تتكامل بوجود الأطراف المشاركة، لتكون “الكتابة” فاعلة في توجهها العام. وحتى الأسئلة التي يطرحها سارتر حول جدوى الكتابة وتوجهها هي أسئلة إشكالية بالنتيجة. صعبة في استنتاج الأجوبة الحاسمة. وحتى اليوم ومع مرور ثمانية عقود تقريباً على أطروحات سارتر، تبقى الأسئلة قائمة، مع تطور مخرجات الثقافة والأدب بشكله الشخصي الذي يواظب على الاستمرارية، ولن تكون المفاهيم والمصطلحات والآراء قارّة دائماً في عالم ثقافي تسوده التيارات المتولدة من العصف السياسي والعسكري الحربي.
 
(5)
وفي مجمل المقدمات الأربع حاول العامري أن يكون في جوهر الآراء السارترية في مناقشة أربعة فصول ضمّها الكتاب في الكتابة وشؤونها والالتزام المقترح الذي يطرحه سارتر. فالعالم (مهمتي) لكي يستوعب القارئ هذا الكمال الإجرائي، فيما يسميه سارتر (فرحة جماليَّة) وهي التي تُظهر العمل بشكله الكامل عبر القارئ النوعي. بمعنى أنَّ إشراك القارئ في متن القراءة الفاعلة وهضمه لبنود الفن الإبداعي ومتطلباته، سيُظهر نتائجه الجماليّة. 
في حين يرى سارتر أن عصره (يمرّ بأزمة ضمير أخلاقي) وأنه (ليس مستعداً للتضحية بحياته من أجل الأدب) وليس هذا تناقضاً في عصر كانت تسوده الكثير من النظريات الفلسفيّة والأدبيّة وتيارات الوعي الجديد، ومن ثمّ فإنَّ أدب تلك المرحلة التي كان فيها سارتر أكثر نشاطاً وألمعيّة يجب (أن يكون إشكالياً وأخلاقياً..) ولكن ليس على حساب الأدب، ولعلّ قراءة الفصول الأربعة الطويلة التي وضعها سارتر في الكتابة وجدواها ستكشف الكثير من هذه الأطروحات القديمة، التي ربما سنرى أنها (قد) لا تتطابق مع مفهومات العصر وحداثته المتطورة في أشكال الحياة وجوهرها
المتغير.