الفلسفة المعاصرة من السؤال إلى الغايات

ثقافة 2022/06/22
...

 حازم رعد
 
يقول ياسبرز {الأسئلة في الفلسفة أكثر أهميّة من الأجوبة وكلّ جواب يتحوّل إلى سؤال جديد} فالسؤال روح الفلسفة فهي تستمر ما كان مستمراً ويمثل حلقة الوصل بين ماضي الفلسفة وراهنها، فهو من قبيل الجسر الذي يربط بين حقبتين تكمل أحداهما الأخرى وتتغذى اللاحقة على ما سبقها.. فالقول بجدوى دراسة ماضي الفلسفة كان لأهمية حضوره في الراهن، فكأنّما الماضي متداخل بشكل مباشر ويمتزج مع أفكار الحاضر وهما معاً يشكلان وحدة واحدة تبحث عن الحقيقة المتغلغلة في ثنايا الأفكار المشتركة.
تميزت الفلسفة المعاصرة في أنّها متصلة بما سبقها من فلسفات (فهي لا تخرج عن ستراتيجية الفلسفة بأنّها ركام معرفي غير تجاوزي فاللاحق فيها يكمل السابق)، لأنّها تنظر في القضايا الكبرى التي بحثها الفلاسفة القدماء وحدّدوا مواقفهم منها، وهذه القضايا هي نفسها مجموع الإشكاليات والأسئلة الوجوديّة الملحة التي تناولها الفلاسفة المعاصرون وحاولوا إيجاد إجابات لها بطرق جديدة تتناسب مع الحقبة المعاصرة التي يعيشون فيها، فالفلسفة روح عصرها كما يرى هيغل.
وكذلك امتازت بأنّها متنوعة، تنوع في المؤلفين وتنوع بنتاجها الفلسفي وأيضا بتنوع الموضوعات المتناولة، فكلّ موضوعات الراهن التي تمسّ حياة الإنسان وتمثل اهتماماته هي موضوع محوري للفلسفة المعاصرة. 
وكذلك يلاحظ تنوع واضح في الاتجاهات الفلسفيّة فهناك اتجاهات فلسفيّة عدة، منها الوجوديّة والماركسيّة والبرغماتيّة والظاهراتيّة، وهذا التعدد دليل على تنوع الاتجاهات للفلسفة المعاصرة. 
رسم هذا التنوع خارطة الفلسفة المعاصرة وأوضح معالمها بشكل لا يقبل الالتباس، وعلى ضوء هذه السرديات برزت محاولة لتصنيف الفلسفة المعاصرة على قسمين يحدّدانها من جهة السمات والأنماط التي تمتاز بها كل فلسفة في التاريخ الموسوم بالحقبة المعاصرة، فقد قسمت على تحليلية وقارية، تمتاز الأولى بالوضوح والدقّة والطابع المباشر بطرح الاشكاليات والفهم الحرفي للقضايا المتناولة بينما ميزة الصنف الآخر هي تقديم الرؤية والأفق التاريخي ولا اعتبار للطريقة المباشرة بطرح الأشكال وكلية المفاهيم واستعمال المجاز والأدب في طرح المسائل الفلسفيّة، ولكن يبدو أن هذا التصنيف لم يلاقِ الاعتبار الكبير ولم يمنح قيمة ألّا محدودة ولكنه  بالوقت نفسه واحد من القضايا المطروحة في الفلسفة المعاصرة وله اهتمام عند بعض المعاصرين من الفلاسفة. 
 وأيضاً تنوع الاتجاهات ينبئ بشكل جلي عن تعدّد الموضوعات المتناولة، وكذلك عن تعدّد المناهج والتعريفات فليس هناك من تعريف واحد يمثل اتجاه الفلسفة المعاصرة وحتى ذلك التعريف الذي يحدها من جهة تاريخ نشأتها في نهايات القرن التاسع عشر واستمرارها الى يومنا الحاضر هو توصيف لهذه الفلسفة وتوضيح للمسائل والمنهجيات المعمول فيها داخل هذه الحقل وليس تعريفاً يحدها بشكل نهائي. 
من هذه النقطة انطلقت معضلة تحديد تاريخ متفق عليه للفلسفة المعاصرة بل يمكن القول إن هناك تواريخ عدة، فالميزة الرئيسة لها أنها منفتحة وحيّة وفاعلة ومتجدّدة تنشط بشكل لافت مع القضايا الراهنة بل والمتوقع لها أن تظهر في المستقبل فتحتمل لها قراءات عديدة تتضمن إجابات لتلك القضايا، ومعنى ذلك أننا لا نكتفي بالتفكير بمفردنا بل نستحضر أفكار بعضهم التي قد  تسهم في إثراء فضاء تفكيرنا وتعيننا على إيجاد إجابات تدخل في بناء واقعنا من خلال إعطائه معنى يضيء عتمة الفكر ويجلي ظلمة الكلمات الناهدة إلى معانٍ ودلالات، وليس معنى هذا القول أن الفلسفة المعاصرة تختلف عما سبقها من الفلسفات، بل هي في أهم جوانبها نقديّة، وهو ما ميزاها عن غيرها من الفلسفات فبوصفها نقدية عزّزت من تميزها وأضفت عليها لوناً خاصاً بها، فهي تعرف على أنها ناقدة بشكل عميق للمفاهيم وللمذاهب، وناقدة للعقل وللثقافة ولأشياء عديدة أخرى.
 وقد أنتجت مدارس واتجاهات نقدية ليست بالقليلة كان الطابع الذي يكسيها وعلى ضوئها تمأسست وهو ما ميزها بالنقد والمراجعات التصحيحية للأفق التاريخية الفلسفية السابقة والمعاصرة أيضاً، وكذلك أن الفلسفة المعاصرة في معناها الآخر تبحث في القضايا والمسائل الراهنة التي تستحدث نتيجة سيرورة حركة التاريخ وتقادم الأيام وتفاقم مشكلات الواقع والزيادة الحاصلة في احتياجات البشرية ومعنى التفلسف المعاصر هو النظر في هذه المسائل وايجاد إجابات لها وانتاج مفاهيم تؤطرها ليسهل تناولها والبحث فيها ومعرفتها، فالقضايا في الفلسفة المعاصرة هي مجموع ما يثار من تساؤلات في الواقع وكذلك هي مجموع الاشكاليات المعترضة في اليومي والمعيش والما يحدث بشكل عام وكلما خلصنا الى حل اشكالية وتفسير مفهوم من المفاهيم وانتاج غيره لنجيب عن سؤال راهن فإننا بذلك ننتج قضايا جديدة في الفلسفة تغني ساحتها وتوسع من فضاء اشتغالاتها وتداولها لتغطي أكبر مساحات اهتمامات الإنسان واحتكاكه بالواقع والأشياء والأشخاص، فتكون تلك القضايا هي الأطر المعرفيّة “النسبيّة” التي من خلالها يتناول الأشياء ويتفاعل معها ويجد فيها المعنى الذي يدهش في البحث عنه وسط ركام من الكلمات والأشياء والقضايا.