إيطاليا المسكينة أمام دمعة مزعومة

ثقافة 2022/06/23
...

 عبد الحسين ماهود
نعيم عبد مهلهل ماكنة تنتج من دون هوادة كما هائلا من الكتب تحمل اسمه كمؤلف، فتجعل جل ساعات يومه مخصصة للكتابة على حساب التركيز على أشياء حياتيّة أخرى لا تقل أهمية عن هذا الاهتمام، أزاء هذا الهوس تعتقد أن كتاباته قد تجنح إلى التسطيح، لكنه في سرده يحفر في الأعماق فيؤلب القلب بقدر كبير من الدفء المشحون بعواطف نبي يصرح أمام الملأ بما لديه، ويشحذ الذهن للتعبير عن موقف من الحياة لا يحيد عن القيم النبيلة التي يؤمن بها كرجل محكوم ببيئته.
 
إنّه سارد كبير، ولا ضير عنده أن يأتي سرده مغسولاً بدمعة صوفيا لورين، تلك الممثلة الإيطالية ذات النهد البضّ الذي أبرزته الأفلام الروائيّة بالأبيض والأسود، التي راح يبحث عنها في روما من دون أن يدرك أنها انزوت في مأوى غير معلوم بعد أن داهمتها الشيخوخة، أو مغسولاً بدموع أصدقاء محسن التي ذرفوها في سجن بوكا عند زيارتهم له، حين كان معتقلاً فيه، أو بدمعة محسن المزعومة لعدم صلتها بحال هذا الروائي الراقد حالياً تحت التراب، بعد أن أطلقت الحياة سراحه مانحة إياه إجازة أبديّة.وعليه ينبغي التأكيد أن لا صلة بدمعة هذا المظلوم التي وردت في عنوان كتاب نعيم (دمعة محسن وايطاليا المسكينة) الصادر بهيئة قصص في سوريا عن دار نينوى مطلع هذا العام 2022، ولا صلة لها بدمعة أيوب عندما وصل به الصبر إلى آخر مدارج الألم، أو دمعة من ولدت في قرون سابقة يأتي ذكرها في كلّ طف، أما عن إيطاليا الساحرة المنعوتة بـ (المسكينة) فلأن قيصرها في امتلاكه لكليوباترا كان أقلّ فحولة من جلجامش الذي تجوّل في شوارع روما، تاركاً في خطواته تأوهات النساء الايطاليات ذوات الوجوه البرونزية والعيون الزرق على إثر وقائع غرامه معهن. إن جلجامش هنا هو ابن المعدان الذي أخذ معه في سفره للبحث عن عشبة الخلود عصاه الغليظة التي تحميه من مخاطر الطريق، العصا هي ذاتها اليوم من يمسكها المعدان ليضبطوا بها سير قطعان جواميسهم في عودتها من قيلولة الماء وسط مياه الهور إلى حظائرها.
وايطاليا المسكينة أيضاً، لأنّها تعيش محنة وباء كورونا التي أذلتها، بعد خسائر بشريّة جمّة فاقت خسائر الحرب التي أسهمت إيطاليا بشنها في الناصرية مع قوات التحالف التي احتلت العراق، لقد سقط جنودها في شوارع المدينة قتلى برصاص أبنائها المدافعين عنها ضد الاحتلال واختلطت دماؤهم مع دماء الضحايا من أبناء هذه المدينة بفعل شظايا إنفجار مبنى غرفة تجارة الناصريّة الذي اتخذ مقراً للقيادة الإيطاليّة، بشاحنة
مفخخة.
في تجواله بين مدن العالم يضع نعيم عبد مهلهل بوصفه بطلاً لقصص مترابطة الأحداث في هذه المجموعة، يضع مدناً لا مرئية نصب عينيه، بعد أن تخيلها ايتاليو كالفينو في روايته (مدن لا مرئية) ليكشف الغيب في ثياب هذه المدن بعد أن يأوي إليها عقب المتع الغراميَّة التي تتحقق له، لكن المدن التي جال بها المؤلف (البطل) هي مدن حقيقية تنحو بالقصص صوب أدب الرحلات بواقعيّة سحريّة ترتبط بالراهن من الزمن، وبأمكنة هذه المدن على خارطة العالم، وهي المتوزعة بين أوروبا والناصريّة (جنوب العراق) الذي وصفه جندي ايطالي جريح بأنّه جنوب نحس، ناسفاً كونه جنوباً ناعماً ورومانسياً وثورياً وحسينياً وماركسياً وفقيراً إلى حدّ اللعنة، ذلك الجنوب الذي كنا نقود سعادتنا فيه برمش ممثلة حسناء ونقود ذات السعادة في الظرف الراهن برواتبنا المعسرة ومفردات البطاقة التموينية الشحيحة مقابل الخوف من رذاذ فيروس كورونا الذي تمكن الغربيون من اختراق قيوده بتعقيم عوراتهم وتحقيق شهواتهم في الحمامات، لكن ما يفسّر عدم تحقيق المعلم سلمان الذي مات في مالطا لرغبة خليلته بالإنجاب منه ورفض البطل لعرض إحدى الفاتنات بتحقيق الأمنية نفسها، هو الارتباط ببيئتهم التي تحكمها مبادئ وأصول لا يمكن لهما التخلّي عنها مهماً غيروا من ملاذاتهم.
حمل محسن الخفاجي صيرورة الوداع عبر محنة الاعتقال من دون أن يذرف دمعة أو ينجز آخر رواياته ليموت وهو جالس أمام الحاسوب.. لا سبب معلوم لاعتقال الأميركيين له، غير أن خبراً غير مؤكد يشير لارتكابه فعل الكذب على موظف فدرالي. 
في اعتقاله بدا متعب النفس والجسد وقد غزت النحافة جسده الواهن والشحوب عينيه، ونزف قلبه دماً من دون أن تذرف له دمعة، في حياته ما عرف للبكاء طريقاً وكانت رقته تشاكس الدمع وتمنعه من أن يسيل على خديه، وبحسب ما أدلى به المؤلف، فإنَّ دمعة محسن التي تصدّرت عنوان مجموعة نعيم القصصيَّة قد شاكست إيطاليا المسكينة وأثبتت قدرتها على أن تكون مزعومة.
ملاحظة: في العام 2003 أعلنت وزارة الثقافة عن أسماء الذين فازوا بجائزة الدولة للإبداع، وكنا نحن الثلاثة من الفائزين بها.
محسن الخفاجي عن الرواية.
نعيم عبد مهلهل عن القصة القصيرة.
أنا عن النص المسرحي.
وبفوزنا اكتسبت الناصريَّة شرف وقوع ثقل الجائزة بين مبدعيها