أرجوك.. إمّا شاعر أو روائي

ثقافة 2022/06/26
...

 د.عبد العظيم السلطاني
 
ثمّة عالم فسيح اسمه البحث عن (الجودة)، وتعني بأبسط صورها السعي للارتقاء بالمنجز، والوصول إلى أفضل الحالات الممكنة بالاستفادة من تراكم الخبرة في مجال من المجالات. والجودة هذه تصلح لكل ميدان من ميادين الحياة. تصلح للإدارة وللصناعة مثلما تصلح للتدريس، ولا شيء يمنع من الإفادة منها في حقل الأدب، على الرغم من أن الأدب مرتبط بالإبداع والذات وتجريبها، فهو في النهاية ميدان يتسع للخبرات والآراء النقديّة لتصب في مجرى الارتقاء بواقع الأدب وفنونه وبواقع الأديب إنسانا مبدعا له اسم ارتبط بمنجز معيّن.   طبعا، لا أنا ولا غيري وصيّ على شاعر أو روائي، لكن منطق الجودة يدفعني مثلما يدفع غيري أن يقول الرأي النقدي الذي يتصوّر بأنّه قد ينفع. ويبقى الأديب حرّا في أن يأخذ بملاحظة نقديّة ليدسها في جيب تجربته، أو أن يدعها للريح.
ماذا لو أنّ الشاعر الجواهري - أو محمود درويش أو نزار قباني- بعد أن خاض تجربته المميزة وأرسى لنفسه اسما مهما وعلامة في عالم الشعر العربي وصار على ما هو عليه وهو في قمّة حضوره شاعرا وبهذا الحجم والهالة؛ وراح فجأة يكتب الرواية ويسعى لِأن يكون روائيا، ويريد أن يبقى شاعرا أيضا؟!. أو أنّ نجيب محفوظ – أو غيره من الروائيين المعروفين- راح فجأة يكتب الشعر وينشره ويسعى ليكون شاعرا بين الشعراء، بعد أن قدّم تجربته الروائية وارتبط اسمه بها؟!. ماذا سنقول عنه وكيف نقيّم هذا التنقّل بين تجربتين إبداعيتين؟. هل ثمّة خطر على الصفة الأولى التي اكتسبها؟ وهل ثمّة ظلال أذى على جودة التجربة الأدبيّة نفسها؟. 
لا بأس، قد يكتب المرء لنفسه نصّا شعريّا وهو روائي، وقد ينشره للناس، أيضا. وهذا أمر مختلف عمّا نتحدث عنه. وهو أن يكون شاعرا بعد أن كان روائيا له اسم، أو روائيا بعد أن كان شاعرا له اسم، وقد يطمح في امتلاكهما معا!. وقد لا نستبعد إمكانية نجاح أديب من الأدباء في كتابة الشعر والرواية، لكن هذا النجاح إن حصل يبقى أمرا محدودا وفرديا وليس متاحا للجميع، ولعلي لا أطمئن إلى أن ذلك الأديب يكتب كلا الجنسين الأدبيين بالكفاءة نفسها، فلا شك في أنّه في أحدهما أفضل منه في الآخر. قد يقول قائل بأنّ طاقة بعض الأدباء أكبر من أن يسعها جنس إبداعي بعينه. وعندي هذا قول غير واقعي، ولا يأخذ بنظر الاعتبار مرونة كل جنس أدبي وقدرته على احتواء طاقة المبدع، فكل جنس يمكن أن يعبّر عن مكنونات عاطفة الأديب وعقله، لو تمكّن من أدوات ذلك الجنس وسبر أغواره حقّا وصدقا. وقول القائل هذا، أيضا، لا يأخذ بنظر الاعتبار حاجة كل جنس أدبي لتراكم الخبرة ونضج التجربة ودقة التكنيك في التفاصيل. فعلى الرغم من أنّ الشعر والرواية كليهما أدب إبداعي إلّا أنّ لكل منهما فضاء خاصا به. وتنقّل الأديب من فضاء إلى آخر ليس أمرا هيّنا، فلكل من الفضاءين مزاجه. ولكل فن من الفنّين خصائص وتفاصيل وأسرار صنعة يعرفها الذين غاصوا فيها، واكتسبوا من مزاولتها خبرة ومرانا. فالروائي يعرف دقائق السرد الروائي، والشاعر يعرف دقائق فن القول الشعري. وكلّما استمرّ في تجربته انفتحت أمامه تفاصيل دقيقة في فنّه الذي هو سائر فيه.
قد تكون للأديب المتنقّل بين الفنين أسبابه المضمرة وهي غير المعلنة، وله محركاته الثقافيّة النفسيّة الواعية أو اللاواعية. ويحق للناس أن تفكّر في أمره، وقد تشرّق وتغرّب في التفسير. وقد يقولون ما لا يسر الأديب سماعه. فقد يقولون إنّها إرضاء لرغبة نفسيّة لدى الأديب، في التعبير عن فكرة "القادر" على فنون الأدب وأجناسه. وقد يقولون إنَّ هذا التنقل استجابة لدوافع نفعيَّة تصوَّرَ فيها الأديب غروب شمس جنس أدبي معيّن فأراد تجريب حظه في غيره، لعله يصيب منه مغنما.
لا ضير طبعا أن يكتب النقد شاعر أو روائي، فالنص النقدي مختلف عن النص الإبداعي، من حيث طبيعة اللغة والخطاب المباشر ودرجة العناية بالعقل. والأمر مختلف، أيضا، عن حالة النص الإبداعي المفتوح، الذي تلاشت فيه الحدود بين الأجناس الأدبية، وفتح ذراعيه ليحتضنها جميعا. ما يعنينا هنا أمر أديب مازال يؤمن بجنس الشعر ويمارسه جنسا مستقلا بكامل خصوصيته، ويؤمن بالرواية جنسا مستقلا ويمارسه بكامل خصوصيته.
  ليس لنا أن ننسى الضرر الذي يلحق باسم الأديب. فالتنقّل بين الشعر والرواية يشوّش على الصفة التي اكتسبها اسم الأديب، حين ارتبط بفن من الفنّين. فصار فلان الشاعر، أو فلان الروائي. وأنا هنا بطبيعة الحال لا أتحدث عن هواة مبتدئين يجربون هذا الفن أو ذاك قبل أن تطمئن نفوسهم لجنس أدبي بعينه، إنّما أتحدث عن حالة الأديب حين تكون تجربته قد نضُجت وتبلورت وتعمّقت بنصوص كثيرة وصار له اسم وصفة. وليس سهلا أن يشيّد أديب له اسما في عالم الرواية ليكون روائيا، وليس سهلا أن يشيّد أديب آخر له اسما في عالم الشعر ليكون شاعرا. ومن الحكمة أن يحافظ على هذا المشيَّد، ولا يشوش على اسمه بصفة أخرى يطمح إلى امتلاكها.
لذا أقول بهدي الجودة والارتقاء بالعمل الأدبي وحفاظا على اسم الأديب الذي ارتبط بفن معيّن: عزيزي الأديب، قاوم رغبتك في مسك رمانتين بيد واحدة، امسك برمانة الشعر إن كنت شاعرا، أو امسك برمانة الرواية إن كنت روائيا. فرياسة واحدة فيها عمق وأهمية، تغنيك عن تبديد طاقتك الإبداعيّة في تجريب القفز بين الأجناس الأدبيّة، وإن كنت حيويا مولعا بالتجريب فليكن تجريبك في ميدانك نفسه. ودع اسمك الذي ربطته بجنس إبداعي معيّن براقا بصفته، ولا تشوّش عليه بصفة جنس إبداعي آخر، فهذا لن يضيف إلى اسمك أكثر مما اكتسب.