«مو يان يتحدّث».. الصيني المرح محاضراً

ثقافة 2022/06/26
...

 علي محمود خضيّر
على الرغم من ادعائه عدمَ الشهرة خارج بلاده، وهو الحائز لنوبل، إلا أنَّ المحاضرات الثلاث والعشرين المجموعة في "مو يان يتحدث" والصادرة عن دار Cambria Press تقدم كاتباً عالمياً يضع قدماً قوية في تربة مسقط رأسه "غاومي"، والأخرى في ساحة الأدب العالمي، مؤدياً عملا متوازناً بين وضعه ضمن النخبة العالميّة وتقاليد سرد القصص المحليّة الموجودة في أعماله. يعتمد مو يان (اسمه الحقيقي غوان موي) على هذين السياقين المتوازيين عند تقديم شخصيته الأدبيّة. تجمع محاضراته بين حكايات طفولته الريفيّة والتأملات حول الأسلوب الأدبي. 
هذه الازدواجيّة بين راوي القصص المتواضع والحائز جائزة نوبل هي التي تحدّد ظاهرة مو يان، فضلاً عن طبعه المرح الذي يمنح الخطب في المجلد طابعاً مسلياً. 
على حدّ تعبير مو يان، يتضمّن مسار الكاتب تداخل مجالات المعرفة والخيال: "يمكن تقسيم تعليم الكاتب على قسمين: يحدث الأول قبل أن يصبح كاتباً، وهو نوع من التعلم اللا إرادي وغير العملي". 
في حالة مو يان، استلزمت المرحلة الأولية الاستماع إلى رواة القصص في السوق وفرق الأوبرا المحلية والرعاة الأطفال الذين لديهم شغف برواية حكايات طويلة. 
الجزء الثاني من تعليمه الأدبي كان في أكاديمية جيش التحرير الشعبي للفنون، "عند هذه النقطة أصبحت القراءة والكتابة الفنتازية وظيفتي اليومية". 
يشير الكتاب إلى عدم المساواة على الساحة الأدبية العالميّة، إذ يترجم المؤلفون من بعض البلدان من دون عناء ليصبحوا جزءاً من الأدب العالمي بينما ينظر إلى الآخرين على أنهم ممثلون لمجال جيوسياسي محدّد. في مقدمته لِـ "مو يان يتحدّث"، ينتقد جوناثان ستالينغ وسائل الإعلام العالميّة لعدم "مناقشة كتابات مو يان والتركيز فقط على الحمولة السياسيّة، وجدت في قصصه أو لم توجد".
ويمكن سحب استنتاج ستالينغ على تعامل الإعلام الثقافي العالمي، والمهرجانات وحركات الترجمة الغربية مع الأدب العراقي وتسليطها الضوء على أسماء بعينها وأنماط كتابة محددة تخدم وتُلبي الصورة التي يُراد للبلاد أن تُسوّق بها عالميّاً.
وعلى الرغم من وجود زوايا سياسية لبعض قصص مو يان، إلّا أن قصصه تلك تنطوي، إجمالاً، على إعادة كتابة حدث من منظور جديد -تفكيك المعرفة التاريخيّة وإضافة جرعة من الخيال- "تقسيم التاريخ الرسمي ضرورة سياسيّة؛ ملء التاريخ بالأسطورة والرومانسيّة ضرورة نفسيّة وروحيّة".
يحصل قارئ خطب مويان على انطباع جيد عن طبيعة كتاباته "متعددة الحواس".
يحرص صاحب "مخدع من البلور" على إشراك الجسد كله، يتحدّث مو يان عن "التغذية الأدبيّة" في طفولته، والتي منحته "بطن القصص" التي مايزال يعتمدها حتى اليوم، ولكل منها "نكهة" فريدة من نوعها. يقدّم نفسه كاتباً للشعب، مشيداً بروائح وأصوات الخيال: "لا يمكن لأي أسلوب نثري، مهما كان رائعاً أو دقيقاً، أن يتطابق مع عدسة الكاميرا. 
لكن الكاميرات لا يمكنها تسجيل الرائحة، أو على الأقل ليس بعد. هذا هو مجال الكاتب".
يصف مو يان عادته في حضور جلسات مع رواة القصص المحليين بأنّها "قراءة بالأذن"، في حين تشير "الكتابة بالأنف" إلى إشراك الذكريات من خلال رمزية عطور معينة يتم تقطيرها من خلال عملية الكتابة.
في العديد من محاضراته، أعرب مو يان عن طموحه لإنتاج أعمال للناس ولكن من خلالهم، "الكتابة للناس تعني إصدار حكمك، ولكن الكتابة كواحد من الناس لا تنطوي بالضرورة على حكم". 
تتمثّل طريقته في إنشاء "شخصيات رمزيّة وأنموذجيّة" تتبنى أعمالاً بقوالب مُتشابهة من النماذج الأصليّة الريفيّة. 
ترفضُ شخصياته فصلها إلى أخيار وأشرار.
يقول: "إنّ الخفايا الغامضة موجودة في قلب وعقل كل شخص، وهي تضاريس لا يمكن وصفها بعبارات بسيطة من الصواب والخطأ أو الجيدة والسيئة". يتألّق يان في وضع أفراد عاديين يجدون أنفسهم في مواقف مستحيلة، يُجبرون على التنقل داخلها تحت ضغط اجتماعي وسياسي شديدين. يمكن القول إنّ خطابات يان، ومحاضراته، امتداد لعمله الأدبي، متناولاً الحوادث واقعاً ومبالغةً على نحو خيالي يرفض احتواءه في شكل الرواية. 
وكمثال، على الفوائض شبه النصيّة، كتابته المنسوبة إلى جوزيف ستالين في "أنشودة الثوم" 1988؛ على الرغم من أنها تسبق البداية الفعلية للرواية، لكنها مستغرقة بخيال قصصي فارق: "كانت لدي الجرأة لنسب اقتباس إلى ستالين. 
شعرت أن ستالين يجب أن يكون قد قال شيئاً على هذا المنوال. في وقت لاحق، سألني المحرر عن الفصل والصفحة التي اقتبست منها العبارة، أخبرته أنها ليست موجودة. 
مضى إلى القول: من الأفضل عدم الاستشهاد بستالين، لنكتب بدلاً عن ذلك "قول مأثور". لقد كنت أنا من ألّف القول المأثور!".
يكشف في خطاب آخر، شغفه بمحو الحدود بين الخيال والواقع الذي أوقعه في أكثر من ورطة بعضها طريف. 
استعمل مرّةً صديق العائلة أنموذجاً لشخصية روائية، باسمه وتفاصيله الشخصية الأخرى. لسوء الحظ، توفّي النظير الخيالي في الرواية، وقدّم صديق العائلة شكوى غاضبة إلى والد مو يان، الذي أجاب بحذاقة: "يشير السطر الأول من الرواية إليَّ باسم "والدي، نسل قطاع الطرق". بالتأكيد أنا لست نسل قطاع الطرق. إنه خيال يا رجل!".
تسجل فقرات من الكتاب كيف ولماذا اختار الكاتب اسماً مستعاراً "غوان موي" -وتعني "لا تتحدث- كجزء من بناء وتطور شخصية المؤلّف. تحتوي روايته الخيالية، "جمهورية النبيذ" (1992)، على سرد ينسب للمؤلّف لي ييدو، في حين يتكوّن الإطار السردي للرواية من رسائل بين لي ييدو وبطله الأدبي مو يان. ومن ثمّ فإنّ النص الموازي لاسم مو يان على الغلاف يشكل جزءاً أساسياً من موضوع الرواية الكلّي.
ميول مو يان إلى زجّ نفسه داخل قصصه واضحةٌ أيضاً في خطاباته، فهو يسخر من وصف وسائل الإعلام العالمية لكتاباته على أنّها "واقعية سحريّة صينيّة" بالكشف عن أنه "حتى يومنا هذا، لم أنتهِ أبداً من مئة عام من العزلة. 
آنذاك، وبعد قراءة ثمانية عشر صفحة، امتلكت حماساً إبداعياً لدرجة أنني رميت الكتاب، والتقطت قلماً، وكتبت!" تعترف الحادثة بمديونيته لغارسيا ماركيز (أو بالأحرى لمترجميه الصينيين) مع تبادل عادة الصحافة الأدبية الكسول المتمثلة في ربط الكُتّاب الجدد بالكتاب الراسخين. وتوضّح، شكلاً ومحتوىً، ابتكار مو يان وأصالته العنيدة.
حتى مع لبنته الأدبية الأساسية، بلدة غاومي، يتعامل يان على نحو خيالي جلي: "يجب أن تكون بلدة شمال شرق غاومي مفهوماً مفتوحاً، لا مغلقاً - يجب أن تكون مفهوماً أدبياً، لا جغرافية فحسب (…) في كتابي Big Breasts and Wide Hips [1996]، نقلت السلاسل الجبلية والتلال والمستنقعات والصحارى إلى شمال شرق غوامي، ناهيك عن أنواع الحياة النباتية التي لم تنمُ أبداً في المنطقة". من يرغب في سرد واقعي لحياة مو يان، فرهانه الآمِن عدم الثقة الكاملة في أي شيء يقوله راوي القصص هذا، مكتفياً بقراءة مقدمة المترجم شيان شو الموجزة، التي تضمنت سيرة مختصرة للمؤلّف.
وعلى المرء التذكر دائماً أن لسان الذاكرة المتخيلة والأساطير الشعبية التي جعلته يتسيد الأدب العالمي، هو من يتحدّث عن مو يان.