السوداويَّةُ ثيمة في «تعريفٌ متشابهٌ جداً»

ثقافة 2022/06/26
...

 عادل الفتلاوي
 
جاءَ المذهبُ الواقعيُّ كردِّ فعلٍ على الرومنطيقية ذات البعد التخيّلي، إذ انتقلت فيهِ القصيدة من وصف تجربة الذات المنعزلة عن العالم، إلى وصف تجربة الذات التي تدخل في صراع مع المحيط الذي تعيش فيه، وتعكسُ حقيقتهُ بلغةٍ أدبيةٍ من دون الإغراق في المثاليات، وهو ما نراه عند شعراء وروائيين معاصرين فضّلوا أن يكون الواقع مادةً لأدبهم من دون تزييف، ومن هذهِ التجارب التي نريد تسليط الضوء عليها مجموعة (تعريفٌ متشابهٌ جدًّا) للشاعرة رؤى زهير الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق 2022.  
إنَّ الثيمةَ التي تنطلقُ منها الشاعرة في مجموعتها ترتكزُ على رؤيا الواقعِ من وجهةِ النظرِ النفسيةِ للشاعرةِ لرسمِ صورة للجوانب السياسيةِ والاجتماعية والذاتية تكون فيها شاهدةً على سوداويتهِ، أي الواقع، بقصائدَ تبثُّ فيها أحاسيسها بلغةٍ شعرية خاليةٍ من التعقيدِ والرمزيةِ والغموض، يطغى عليها أسلوب السهل الممتنع، سوى بعض النصوصِ التي تحتاجُ إلى وقفةٍ نقديّةٍ تأمليّةٍ للغوصِ في جماليتها الشعرية، تشيرُ من خلالِها إلى مكامن المأساةِ برؤيا تراجيديةٍ واضحةٍ ذات اتجاهٍ يكادُ أن يكون واحدًا من دون التنقل من موضوعٍ إلى آخر كالغزلِ، بل حتى النصوصِ ذات الحالة الوجدانيّة أخذت جانب جلد الذات ونقد المجتمع والتأسي على عمر مضاع، وكل موضوعاتِ هذه النصوصِ جاءتْ متّسقةً مع عتبةِ العنوانِ (تعريفٌ متشابهٌ جدًّا)، إذ احتوت مجموعتها الشعريّة على ثلاثة وستينَ نصّا جماليًا من ضمنها تسعة نصوصٍ إلى فقيديها الوالد والأخ.
يمثّلُ الوطنِ في الحالةِ الوجدانيّةِ للشاعرةِ واقعًا محتشدًا بصورِ الشهداءِ والضحايا والأرامل والثكالى واليتامى والخرابِ والحروبِ التي أكلت الأخضر واليابسَ منذ القصيدةِ الأولى مرورًا بجملةٍ من قصائدَ تدورُ فيهِا روحها الشاعرة حول هذا الوطن الذي لا ترى في طرقهِ إلّا إيقاع الموتِ اليوميّ، والشاعرةُ في هذه المجموعةِ تنقلُ لنا هذا الواقعَ وهي تستشعر مآسيهِ بصدقِ إحساسها وعاطفتها بنظرةٍ تشاؤميّةٍ، تقول في قصيدة (أسرّة الموتى): (نحنُ الخارجينَ من أزمنةِ الموتِ/ الفارّينَ من عنقِ القصائدِ/ الهاربينَ كآخرِ رذاذةٍ من مسارِ النوافيرِ الحمر/ وجوهنا نصفُ بشريّةٍ/ شفاهنا متحجّرة بنعي الثكالى). 
وتستمرُّ القصيدةُ والقصائدُ التي تليها على هذهِ الوتيرةِ من وصفِ ما حلَّ بهذهِ البلادُ من ويلاتِ الحربِ وضريبةِ التغيير والمستقبل الغامض غير متفائلةٍ بقدومهِ، إلّا من بعضِ دعوات للنهوضِ من الرمادِ رغم الجراح تناثرت هنا وهناك، من دونَ أنْ تغادرَ عصبَ القصيدةِ وهو الواقع السوداوي، وهي بذلك تريدُ لمن يبحث عن هذا الوطنِ أن يسيرَ إلى المستقبل وهو يحملُ معه من الماضي إرثَ دموعِ الثكالى ونشيجهنَّ وقمصانَ الشهداءِ المدمَّاةِ وضحايا ثُقِبتْ رؤوسهم حينَ خرجوا مبكرين للبحثِ عن هذا الوطنِ المضاع: (لا تنسَ/ وأنتَ تبحثُ عن لآلئَ دجلةَ/ أن ترمّمَ دمع الثكالى وتُعلّقها نجومًا ناحبة).. (لا تنسَ/ وأنتَ تبحثُ عن وطنٍ/ أن تعلّق على كتفِ السماء من ثقبتْ رؤوسهم).
ونرى ذلكَ جليًّا في (أسرّة الموتى، بطاقة مرور، المسطر، حبّة مطر، نشيد، وطن، نشيج وطني وغيرها).
وفي مشهدٍ أكثرَ اختصارًا للوطن الأكبرَ كانت هناك بعضُ القصائد عن تشرين تلكَ الصفحةَ التي حاولَ شبابها تغيير الواقعِ من كلِّ جوانبهِ لكن مقاومة هذا التغيير ضغطتْ بكلتا يديها على أكتافِ المعدمينَ للنهوضِ بأعباء الغد، هذهِ الصفحة تناولتها الشاعرة هنا بروحيّةِ الثائرةِ متحدّثةً بلسانِ الأمّ والأختِ والزوجةِ والحاملة لهذه الهموم والمواجع، اللواتي ينتظرنَ عودةَ أعزائهنَّ من رحلةِ البحثِ عن وطنٍ، لكن قصصهم لفّها ذلكَ الدخانُ الأبيض: (تهمسُ بحكايات الشوقِ عن مواعيد قضم الدخانُ الأبيضُ أطرافها)، ليستمرَّ هذا الوطن سخيًّا بأبنائهِ يقدمهم على موائدَ واقعٍ يجترحُ الألم، وتقفُ الشاعرةُ شاهدةً أمامَ هذا المشهد مع الثاكلات بكلّ أوجاعهنَّ، تقول في قصيدة (عصا الدمعِ والذاكرة): (أذرني- ورمادُ الذين ثقبت رؤوسهم دخانياتٌ طائشةٌ- ريحا عاتية/ على شاطئ دجلةَ ابتكرُ أغنيةً/ لكلّ الثكالى اللائي لم يستطعنَ/ أن يلمسنَ جباه أولادهنَّ في الوداع الأخير/ لأتركني نورسةً.. مشطت أرصفة التحرير/ بحثًا عن دماءٍ خافقة تعثرت مرارا بصدى - نريد وطنًا).
يتضح ذلك في قصائد هي (دخانيَّة عابرة، عصا الدمع والذاكرة، تذكر، خوذة وصدع، رماد، أسوار، حصاد، لو.. وغيرها).
في لحظات الجزعِ ينكسرُ (التابو) على شكلِ سؤالٍ يتعالى وسطَ هذا الخرابِ باحثًا عن إجابةٍ صعبة، وقد يلقي هذا السؤال رؤيا فلسفيّةً أو نقديّةً بحسبِ أسلوبِ الرفضِ، أو من خلالِ مساءلتهِ لذلك الواقعِ، ومن يقف خلفه، وقد يمتدُّ السؤال إلى المحظور، لذا نجد ذلكَ من دون مواربةٍ في قصائد (عباءةِ الله، أحلامٌ سود، ملح عمر وكافور، للإيجار، عدالة، ما خبَّأه صندوق الزمن الأحمر وغيرها).
وفي قصائدها الذاتيةِ القليلة نسبيًا أيضًا كان رفضُ الواقع سيّد المواقف لسكينِ القبيلةِ والآخر المتسلّط على الأحلامِ والعقل والجسد، ومحاسبته على الطفولة، الأماني، الجراح، ليتركها أمامَ ماضٍ مضاع، وحاضرٍ فوضويّ ومستقبلٍ مجهول، والواقعُ الذي بين الولاةِ والموتِ (عمرٌ بلون الانسكار، وفجيعة بنكهةِ الحلم، ووطنٍ بلونٍ أحمر)، وهي تشتغل في نصوصها على هذهِ البينيّات بضربةٍ جماليّة، حتى في هذه القصائد نرى ومضاتٍ من الواقع السوداويّ الذي نعيشهُ كأنّها تقول إنَّ الحبَّ محكومٌ كذلكَ بواقعنا المرير، لكنها تصارعُ كلّ ذلكَ بالعصيانِ بدءًا من شعرها الذي توضّأ بالضوءِ حتى تعليقه على شاهدتها، ويتجلّى ذلك في قصائد (لعينيهِ ما أعني، تعريفٌ متشابهٌ جدا، بطاقة مرور، بكاء، جديلة، وماذا بعد، الطلق، الشمسُ في هروبها الأخير، وحيدا، أناة ليلكَ، احتراق، ممر الصبر الطويل، شرارة، تشابه – اختلاف، ومضة سينمائية، بنفسج، لحن وغيرها). 
كما أنَّ للوالد والأخ حضورا في هذه المجموعة في مجموعة نصوصٍ منسجمةٍ وحالتها النفسيّة مع سياقها العام، ونشيرُ أخيرا إلى أنَّ هذهِ المجموعة امتلكتْ مقومات جماليّة تستحق الوقوف عندها برؤى نقديّة تشي بمكنونات نصوصها بصورة أشمل من هذا السطور.