في حضرة محمد خضير

ثقافة 2022/06/26
...

 باسم عبد الحميد حمودي
 
 أجل، هذا رجل في مجموعة رجال.. يقام له احتراما، ولا يجلس من أراد الجلوس في حضرته إلّا  إذا أشار موافقاً.. وهو بكل طيبته البصريَّة لن يفعل إلّا هذا.
 قال عنه الراحل الكبير أستاذنا علي جواد الطاهر: محمد خضير وحده؟ وأثار بذلك الشباب الستيني الذين كانوا يحفرون صخر الكلمة لينحتوا لنا عالما سرديا جديدا ظنوا أنهم جاؤوا به بالجديد المغاير لرتابة السرد المحسوب على الحداثة.  ونقصد بموضوعة السرد التحديثي السابق لجيل الستينات تجارب التحديث التي قامت بها جماعة الوقت الضائع: منهم (نزار سليم –عدنان رؤوف- جواد سليم- نهاد التكرلي- بلند الحيدري وآخرون) في القصة والنحت والنقد، ثم جماعة (السرد الجديد) كما اسميها ممثلة بتجارب (عبد الملك نوري –فؤاد التكرلي –محمد روزنامجي –عبد الله نيازي- مهدي عيسى الصقر) لكن التجارب التحديثيَّة الأهم في الخمسينات كانت تجارب فؤاد وعبد الملك قبل سواها. ولكي لا ندخل في متاهة الستينات الواسعة، نقول إنَّ هذا الفتى الجنوبي الذي دخل بغداد أوّل مرة عام 1961، ليقدم إضبارته للقبول في كلية الزراعة قد سكن لياليه القليلة في حي المربعة وشاهد فيلم (متحف الشمع) في سينما الوطني وذهب إلى إدارة جريدة الحضارة لصاحبها الأستاذ محمد حسن الصوري ليقدّم قصته الأولى، التي نشرت من دون أن تدخل أي من مجاميعه التي طُبِعت لعدم قناعة القاص فنيّا بمستواها الذي كان مزحوما بتجربة تحشيد جماهيرية لا يحبّ القاص الذي نحتفي به اليوم الحديث عنها بعد أن تجاوزتها تجربته السردية الكبيرة.
 ترك محمد خضير فكرة الارتباط بكلية الزراعة مفضّلا العمل في التعليم الابتدائي بعد دخوله المعهد التربوي الملائم في البصرة، لينسب بعد تخرجه الى مدارس ابتدائيَّة خارج لوائه وذلك في لواءي الديوانية ثم العمارة وفي مدارس قرى سوق الشيوخ قبل أن يعود الى البصرة بعد هذا.  في بغداد-قبل أن يعود الى مدينته- زار أكبر سوق  للكتاب والنشر آنذاك وهو سوق السراي واشترى ما أراد من كتب مع مجلات Studio-Life- Fhlm-، ليغترف المتعة ويشذب الذائقة السرديَّة الشابة بالتجارب السينمائيَّة التي تلقاها في هذه المجلات بحيث بقي فن السرد السينمائي جزءا من حياته الكتابيَّة، باستعمال التقطيع والفلاشات في (المملكة السوداء) والتحويل المونتاجي والبناء السردي من طابقين في (منزل النساء) وسواها.
 ركب محمد الصبي ذو التسعة عشر عاماً في بغداد في يوم من أيام وجوده عام 1961 باص رقم 4 وجلس في الطابق الثاني ليرى شارع الرشيد وساحة الميدان وصولا إلى القصر الأبيض بكل تفاصيل العين المبصرة الحذرة التي تلتقط كل التفاصيل وتخزنها في العقل الباطن وتسترجعها متى أرادت في تجاربها التالية. جلس محمد خضير -كما يكشف في صفحته الخاصة في الفيس- في المقهى البرازيليَّة وهو يستذكر قصة عبدالملك نوري التي كتبها فها (العاملة والجرذي والربيع) وهو يكتب رسالة  إلى عبد الملك نوري عام 2012 بعد وفاته نشرها في الحوار المتمدن تحت عنوان (الوشم البغدادي) ليؤكد تأثره المسبق بتجارب وحياة عبد الملك الضاجة التي سنشير إليها ولو قرأ أبو مناف ما كتبته الدكتورة سانحة أمين زكي عن حياة ووله عبد اللك بزوجته (أمة العزيز) وفراقه لها لخرج بانطباع آخر عن حياة ذلك القاص المتفرّد المأزوم دوما. في مقالة خضير عن عبد الملك التي بناها على شكل رسالة سمّاه فيها: (مايسترو طريقة التداعي الحر) وقال له فيها -وهو يقول لنا نحن القراء: (أعترف أن شبحك ظل أكثر تطاولاً من أشباح بورخس وباسترناك وسالنجر وكونديرا وروب غرييه) وقال له ولنا: (أسمح لي القول إن الشرط في التأثير أن يكون المؤثر لا مرئياً، وأن يصعد الخطاب من الأدنى إلى الأعلى وأن يتغير المؤثرون ويولون تباعاً، وأن يكون  باعثا على القلق).
 واللقى صفة رئيسة من صفات محمد خضير الذي ما غمضت عينيه على هدوء باصرة بل علة فوران بصيرة وتقويضها للمألوف، بالمستحيل الممكن من تجارب ورؤى.
 محمد خضير يؤمن في تجاربه السرديَّة -وينفذ- أفكار التأثير المنفرد وتنافذ النصّي والتحول الأجناسي، ذلك أن سعى في (رؤيا خريف) إلى ذلك الخلط بين الأجناس التدوينيَّة.  في التسعينات ناديت بمقولة (نائب النص) وقلت إنَّ القارئ يسرد أيضا بعد أن يتم تمثله للنص، وقد قال محمد خضير في خطابه المؤثر في ندوة تكريم عبد الرحمن الربيعي في البصرة عام 2018 الى مقولة الراوي المشارك للنص، وهو يقدم تجربة مهة في قصته القصيرة (المتسولة والسائق الكردي) التي أهداها إلى فاضل سلطان ونشرها في صفحته الخاصة إذ قدم أنموذجا لتجربة التيه الحياتي لإنسان مشاء فقد بوصلة حياته سعياً إلى إثباتها واكتمال الحصول على نصفه الإنساني المتمثل في أخيه المفقود.
كان يتمشى في العراء عندما التقطه سائق شاحنة كردي وجعله يروي حكايته ويتبادلان الرؤى في تجربة انتهت بدفعه من الشاحنة بسبب سخط السائق منه ومن وهم ضياعه، بعد نقاش حاد يحلله دكتور ثائر العذاري بأنّه صراع داخل تجربة نفس واحدة، فالسائق هو المشاء، وهو الأخ المفقود معاً، لكننا لا نجد الأمر بهذا التبسيط فمحمد خضير يفاجئنا دوما بالمبهر الجديد وتجربة السائق تتكامل مع تجربة المشاء التائه وتتضاد معها أيضاً.
أخيراً نقول إنَّ هذا العملاق المتمرّد المجدد الدائم يفاجئنا دوما بالجديد الذي ننشد إليه  ونعده واحدا من مفاخر التجربة السرديّة الكبيرة التي نحييها
دوماً.