تولستوي ودوستويفسكي.. المقارنة الخصبة

ثقافة 2022/06/27
...

 علي العقباني*
 
المقارنة بين عملاقي الأدب الروسي تولستوي ودوستويفسكي ليست جديدة أبداً على عالم الأدب، فهي تضمنت على الدوام مناحي كثيرة من أدبهما منها التجديد وزوايا الرؤيا للحياة اليومية للناس وأزمات الإنسان المعاصر ومصائر عيشه وكذلك في البنية الروائية لكل منهما، والتجديد الذي أحدثه كل منهما في عالم الرواية، وعلى هذا الأساس بدأ الحديث عن أيهما أعظم شأناً في الأدب الروائي من الآخر.
دوستويفسكي: عن فريدريك نيتشه يقول هو الوحيد الذي أفادني في علم النفس، كان اكتشافي له يفوق أهمية اكتشاف ستاندال.
بينما يقول الناقد الأدبي جورج ستاينر: تولستوي هو «الوريث الأهم للتقليد الملحمي»، ودوستويفسكي «واحداً من أهم العقول الدرامية منذ شكسبير».
عرفت سيرة حياة تولستوي عدة مراحل متتالية الأولى تمثلت في طفولة هادئة وجميلة تلاها عقدان من السنوات الرهيبة، إذ عرفت تلك الفترة سنوات الفوضى في حياته والحرب على الصعيد العام، وبعد ذلك بعقدين آخرين من حياة الأسرة الهادئة التي كتب خلالها أشهر أعماله، والمرحلة الأخيرة من حياته عند بلوغه الخمسين من العمر التي تميّزت بالتمرّد ضد كل ما كان يحيط به.
ولعلّ أجمل عمل أنجزه تولستوي في حياته الشخصية هو هجره حياة الرخاء والرغد التي كان يحياها في البلدة التي كان يملكها، وخلعه الملابس الوثيرة وارتداؤه لباساً خشناً رثاً ومن ثمّ  راح يهيم على وجهه مثل أي فقير، لا أسرة لديه ولا منزل، ولقد وصفه بعضهم بأنه لا أحد وصف الطفولة والحياة الأسريّة والزراعة والصيد والحرب كما وصفها تولستوي، وكثيراً ما يتم الاحتفاء به لتصويره الطبيعة والحيوانات بشكل بالغ الدقة والروعة، ورواياته مبنية كمشاهد قصيرة سهلة القراءة، وتعتمد في كليتها على بعضها البعض، وهي تقدم موضوعات معقدة بطريقة تلقائيّة وطبيعيّة.
كان تولستوي في السبعين من عمره عندما قرّر أن يهجر حياته الرغيدة والثراء والأمجاد التي كان حصدها. تنازل عن أملاكه لأهل البلدة من مزارعين وفلاحين، وخصّ زوجته بما يعود إليه من أرباح كتبه، وارتدى الثوب الخشن وغادر من دون أن يعرف الى أين ولا متى يعود. 
وقد شبهه بعضهم خلال مراحل حياته الأخيرة بأنه شخصية خرجت من عالم دوستويفسكي، السفلي والبائس، شاء تولستوي أن ينهي حياته على الطريقة التي بدأ دوستويفسكي حياته بها، في عالم الفقر والبؤس والتشرّد.
أما روايات دوستويفسكي، هذا»العبقري المريض» كما يُطلق عليه بعض النقاد، القصيرة أو الطويلة، فقد استطاع من خلالها أن يفتن فيلسوفاً عدمياً مثل نيتشه وعالم نفس كبيراً مثل فرويد، ولم يكن مفهوماً بالنسبة للآخرين أو للمحيطين به، ليست لديه شخصية ايجابية بالمطلق أو سلبية، فشخصياته تتأرجح بين الخير والشر، ومسيرة حياته غير متوقعة كما أفعاله وسلوكه، عالم خاص وداخلي مشغول بحرفيّة نسّاج وكوابيس ليليّة.
استهدف أدب دوستويفسكي الشخصية الإنسانية في أكبر مدىً ممكن، فكل فرد لديه فريد في ذاته، ومن ثمّ فمن الممكن ألا يمكننا التوقع عن أفعالها وسلوكها وتحولاتها وطريقة عيشها وعلاقاتها ومستقبلها، فالعقل لدى تلك الشخصيات غالباً ما هو متمتع بالأنانيّة وقد يلجأ أحياناً للاعتماد على الحب الذي يدفع المشاعر الأخلاقيّة ويحثها، إنه يركز على الشر في تلك الشخصيات ويخرجها من عقالها.
يمتلك أبطال دويستوفسكي غالباً شتى الأفكار، ويمكن القول إن لديهم ميولاً وحماساً إزاء الأفكار وإزاء معالجة المسائل العامة للوجود الإنساني، يُحبون الدخول في نقاشات مستمرة حول شؤون الحياة ويناقشون باندفاع وحماس، كما وتشكل اعترافاتهم، ذكرياتهم وحواراتهم إحدى السمات الجوهريّة لتصوير دويستوفسكي عالم الإنسان الداخلي وتناقضاته العميقة، وتلك الانكسارات المعقدة التي يتميز بها عالمه السيكولوجي. 
يمكن القول كثيراً عن عالمي هذين الأديبين العملاقين اللذين شغلا النقاد لسنوات وما زالا يثيران البحث والتقصي والمقارنة في نواحي عديدة من عوالمهما الأدبية وشخصياتهما، لكن حقاً هل ثمة منافسة أو مقارنة منطقيّة في عالم الأدب، أعتقد أنه لا توجد بالمعنى التقليدي، تولستوي ودويستوفسكي كاتبان عظيمان، قامتان أدبيتان رفيعتان واستثنائيتان، إنّهما يعيشان بعيداً عن عالم المنافسة.
 
*كاتب من دمشق