النفاقُ الأدبيُّ

ثقافة 2022/06/27
...

 محمد صابر عبيد
يرتفع العمل الأدبيّ في سلم الأعمال الإنسانيّة ذات الطابع الثقافيّ والفكري والحضاري إلى أعلى قمة هذا الهرم، ومن ثمّ عليه أن يتحلّى بأرقى الصفات ويتسم بأجمل المعايير التي تناسبه وتليق به وترتفع به إلى هذا المقام، إذ لا عمل بوسعه أن ينافس العمل الأدبيّ ارتقاء في سلم المعرفة الإنسانيّة مهما بلغ من الأهميّة، وعلى ذلك ينبغي أن يكون الأديب صاحب هذا العمل في مرتبة أخلاقيّة نوعيّة تتيح له الاضطلاع بهذه المهمة الحضارية الخطيرة.
ويكون محطّ أنظار الآخرين في سلوكه الرفيع وقدرته على تحمّل هذه المسؤوليّة بأعلى ما يمكن من السموّ والحيويّة والقابليّة الفذّة على الإقناع والتأثير والتداول.يمكن أن نطلق على هذا النوع من الأخلاقيّات التي ندعو لها هنا بالأخلاقيّات الأدبيّة الخاصّة بما يجب أن يتمتّع به الأديب الحقّ، ولا علاقة لهذه الأخلاقيّات بما يوازيها من أخلاقيّات اجتماعيّة تفرضها الأعراف الاجتماعيّة التقليديّة المعروفة، إلّا ما يمكن أن تلتقي فيه الأخلاقيّة الاجتماعيّة مع الأخلاقيّة الأدبيّة ليحصل الاتفاق ضمن حيثيات خاصّة لكلّ منها داخل حاضنتها، ومن هذه الأخلاقيّات التي يحصل فيها هذا الاتفاق على ذمّها وهجائها هي «النفاق»؛ وقد نهى الدينُ والعُرفُ والثقافةُ عن هذه الصفة الذميمة التي وُضعتْ في الدرك الأسفل من قائمة المذمومات على نحو لا يقبل النقاش.
لا شكّ في أنّ «النفاق الأدبيّ» هو أسوأ أشكال النفاق وأكثرها انحطاطاً من حيث أنّ الصفة «الأدبيّ» ينبغي أن تكون قرينة النزاهة والرِفعة والصدق والبهاء الروحيّ، وعلى من يدّعي انتسابه إلى هذه الصفة بأيّ شكل من الأشكال أن يكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، والصدق هنا هو القاعدة التي تنطلق منها انبثاقات الجمال الأخرى حيث تتحلّى بها صفة «الأدبيّ»، وعندها يتبدّى حضور «النفاق» وكأنّه عاهة لا تتّسق مطلقاً مع هذا المحيط ولا تتلاءم مع معطياته ولا تستجيب لضروراته الأخلاقيّة أبداً، ليكون المنافق الأدبيّ صاحب عاهة يتفوّق في سوئه على مثيله المنافق الاجتماعيّ لأنّ ضرره أكبر على كلّ شيء. انتشرتْ آفة النفاق الأدبيّ في أوساط الأدباء على نحو مفضوح ومقرف ودنيء بلا سبب واضح، وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا المنافق الأدبيّ أنّك تسمع منه رأياً في أديب معيّن أو نصّ معيّن في مناسبة أو موقف، ثم ما تلبث أن تسمع منه نقيضاً لهذا الرأي في مناسبة أخرى ومقام آخر، وحين تنقدُهُ على ذلك يتحجّج بأسباب واهية وتافهة تحيل على صفة «الجُبن» لا غير، فلا قيمة إذن لكلّ ما يقول؛ بل لكلّ ما يكتب، وهو حين يمدح أديباً أو نصّاً استجابة لخوفٍ أو مصلحةٍ أو غايةٍ غير أدبيّة إنّما يقدح في أخلاقيّاته الأدبيّة ويضربها في الصميم، ولا يستحق بعدها صفة أديب مهما ادّعى من قدرات وإمكانات ومواهب كاذبة تتعارض مع أسلوبه النفاقيّ في النظر إلى الماحول الأدبيّ.
لا بدّ لمن يعتقد أنّه أديب أن يكفّ عن المجاملات الكاذبة التي تتعارض مع رأيه الحقيقيّ الدفين الذي لا يصرّح به إلّا في العتمات، ويخشى التصريح به في الضوء خوفاً أو خجلاً أو ضعفاً في مقوّمات الشخصيّة التي لا تستحق أن توصف بـ»الأدبيّة»، وحين يرضى لنفسه أن يكون منافقاً إلى هذا الحدّ كيف يتسنّى له يا تُرى أن يحترم نفسه عندما يختلي بها، ولعلّ من أولى الخصائص التي يجب أن يتمتّع بها الأديب هي نقد الذات ومحاسبتها وتقويمها كلّ يوم، وإلّا بماذا يختلف عن شخصيّة الإنسان العادي البسيط الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف شيئاً اسمه الأدب أو الثقافة أو المعرفة، وربّما يكون هذا الإنسان البسيط أبعد ما يكون عن النفاق في شكله الاجتماعيّ وأكثر توافقاً وصدقاً مع ذاته، وعندها يهبط هذا الأديب المُدّعي المنافق دون الإنسان البسيط بدرجات يفقد فيها حتّى إنسانيته الطبيعيّة.
يتردّد في الوسط الأدبيّ حشد هائل من الصفات المنافِقة؛ يقوم بإنتاجها فئة من منافقي الأدب ويوزّعونها على «ذويهم!» من الأدباء بكرمٍ طاغٍ لا حياء فيه، من قبيل: الشاعر الكبير والناقد النحرير والروائيّ الفذّ والقاص العملاق و و و، في الوقت الذي لا يحتاج فيه الشاعر أو الناقد أو الروائيّ أو القاص أو غيرهم من الأدباء والفنّانين إلى أيّ نعتٍ يضاف إلى صفتهم الأدبيّة الكافية والمكتفية بذاتها، إذ صار كلّ من أصدرَ كتاباً أو نَشَرَ شيئاً ممّا يكتب كبيراً ونحريراً وفذّاً وعملاقاً جاء بما لم تستطعه الأوائلُ، بحيث تحوّل هذا النفاق الأدبيّ إلى مسخرة حقيقيّة يخجل منها كلّ من يحمل صفة أديب حقيقيّة. 
ففي زمن ضياع التقاليد وقلّة الاحترام للذات وتهاوي المعايير التي يمكن أن تفصل بين الأديب والمدّعي تنامت حلقات المنافقين وتضاعفت، ولم يعد المنافق يخجل من نفاقه وقد أوشك أن يصبح -للأسف- حقيقة تداوليّة في وَسطٍ أدبيٍّ أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه إنّه لا يصلح لشيء، ولا عزاء بعد ذلك لمن أفنى عمره في مجال الأدب وهو يجوّد في أنموذجه باستمرار؛ وقد تكاثر من حوله الذباب الذي لوّثَ طنينُهُ الكلمات والأصوات والألوان والزمان والمكان والإنسان.