تِقْنيَّةُ الانزياحِ السرديِّ في «بريد الآلهة»

ثقافة 2022/06/28
...

 د. صباح التميمي 
اعتاد التعاطي النقدي أن يستدعي اسم «جان كوهن» إذا ما دار الحديث عن الانزياح، ومن المعلوم أن نظريته هذه، تمثّل إجراء نقدياً خاصاً كانت العيّنة فيه شعرية «الشعر الفرنسي على وجه الخصوص»، لذا فإنَّ حضور الانزياح بوصفه أداة إجرائيّة نقديّة يكاد يقتصر - في نقدنا المعاصر - على القراءات  المُستهدِفَةِ للشعر، بيد أن «القصة» عند ذاتنا المبدعة العربيّة، والعراقيّة على وجه الخصوص، انزاحت عن هذا العرف النقدي،
 
 فتمدّدت نحو منطقة الشعر، وأُصيبت ببعض لعناته المتوارثة، وهذا برأيي أمر طبيعي، فالذات العراقيّة، ذات شاعريّة بالفطرة، لأنّها تعيش في بيئة كل ما فيها يقول الشعر، الهور والقصب والبردي والنهر والنخيل.. كل شيء يكتب قصيدة كبيرة اسمها «العراق»، لذا فالشعراء عندنا - إذا ما قُورنّا بغيرنا من العرب - أكثرُ من النخيل، فلا غرابة إذا وجدنا تداخلَ الشعري بالسردي متفشيّاً في مسرودات قصّاصينا، لا سيّما في تلك القصص المبنية بوعي، والصادرة عن موهبة متميّزة تمسك العصا من الوسط، فتقف في البرزخ، لا تغوص في الشعري كليّاً، فتكون قصتها قصيدة، ولا تغرق في سرد بارد فتقترب قصتها من «سوقية قصص الصحافة ويومياتها الفجّة»، ويبدو لي أن «بريد الآلهة» المجموعة القصصيّة الفائزة بجائزة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2019، واحدة من مصاديق هذه الظاهرة، وهي مجموعة قصصية رؤيوية جادة حاول كاتبها ميثم الخزرجي، أن يخلق خطابات مضادة للخطابات السلبيّة المهيمنة على المنظومة الاجتماعية، ويعالج في قصصه بعض الأمراض المتفشية بطريقة فنيّة تجعلها تقترب من السرد الهادف الذي يحقّق وظيفتي المتعة والمنفعة في اللحظة الزمنية ذاتها، ومثل هذا النمط من القصص، يعيد التوازن للفن القصصي العليل، ويمثّل معياراً فنياً يمكن للناقد الواعي أن يستعين به وهو يمارس عملية الفرز أثناء فعل القراءة الجاد، ليستبعد الغث، ويتمسّك بالسمين.
تكتظ قصص المجموعة بمجازات وانزياحات منحتها شاعرية منعشة متوازنة، تظهر هنا وهناك بهدوء وانسياب من دون أن تخدش حياء السرد، الذي يحاول أن يحتفظ ببكارة سرديته خوفا من المنظومة المعيارية، وهو أسلوب هيمن على قصص المجموعة، فعلى أي قصة تقع، تجد السرد المشعرن والشعر المسرود حاضرا بتوازن، يجري فيها السرد داخل الشعر والشعر داخل السرد من دون أن يبغي أحدهما على الآخر، إذ تكاد ترى وأنت تقرأ برزخا فنيا يمنعهما من ذلك، وهذه الفطنة الفنية لا نراها في كثير من قصص أيامنا هذه.
ولأن مساحة هذه القراءة المقالية لا تتسع لكل ما يدور في خلدي عن هذا العمل، سأصطفي منه قصّةً واحدة لأجعلها شاهدا على ما أدّعيه هنا أو تدّعيه قراءتي للتجربة، وهي قصة (الغرفة).
تدور أحداث هذه القصّة حول حياة (رؤوف) الولد المثابر كما يصفه «القاص العليم بكل شيء»، وهو فنّان يمارسُ الرسمَ في عالمه الخاص «غرفته»، التي اكتسبت القصة عتبة عنوانها منها، وعلى الرغم من أهمية الحيّز المكاني لديه، فهي «أشبه بوطن كبير يحوي بعثرته وأفكاره الكثيرة» - كما تقول القصة - إلاّ أننا نقرأ هذه الغرفة قراءة سيميائية تخالف ما يكشف عنه «السارد العليم»، فالغرفة للفنان، مكان معادٍ، لأنها أشبه بعلبة كبريت تكاد أن تنفجر من شدة ضغط الأفكار فيها، وهو التائق للإبحار خارج أحيازها المكانية، فالكون الفسيح هو مكانه الأليف، وهذا ما يتّضح في عتبة «النهاية» إذ تظهر علامتان مهمّتان تكشفان عن رغبة البطل في الانعتاق من عالمه الأثير «غرفته» حين يدنو من «النافذة» وهي علامة دالة على التحرّر من قيود الروتين، والهروب من المكان المعادي، على الرغم من الألفة التي نضجت بينه وبين البطل، ويقوّي هذا المقترح القرائي التفاتُ البطل «إلى حيث الباب»، الذي هو «علامة الانعتاق، والخروج، والهروب، والتحرّر، والخلاص» من الثبات: (الغرفة) و»روتين الرسم» لممارسة لعبة التحوّلات، التي هي الهمّ الوجودي الملازم لشخصية كل فنّان، تكثُرُ في رأسه الأسئلة وتقل الإجابات.
ولنا أن نسأل هنا - وهذا السؤال هو مركز القراءة طبعا - كيف قدّم لنا الكاتب قصّته؟ ولا أسأل هنا عن طرق العرض السردية، بل عن اللغة! ففي أي لغةٍ حلّل الكاتب شخصيته؟ وكيف وصفَ مكانَه السردي، وكيف سرَدَ حدثَه المركزي؟ 
يظهر للمتمعن في قصة «الغرفة» أنها مسكونة بالشعري، صادرة عن لغة التخييل والمجاز والانزياحات الفاعلة، التي تؤدي دورا مركزيا في بنية السرد، لا تلك المجازات المفتعلة التي إذا ما رفعناها من جسد القصة لم تتأثر وترتبك، وهذا النمط من اللغة يحتاج إلى درجة نباهة وفطنة عالية، فعلى الكاتب أن يكون حذر التعامل مع تلوينات اللغة وتزويقاتها، لأنها مخادعة، قد تنزلق به إلى منحدر تخرج معه قصّته من عوالم السرد، لتكون قصيدة نثرية مسرودة. 
لقد كان الخزرجي في لغته حذرا، كراكب الصعبة، لكنّه أحسن الإمساك بعنانها، فلم تجمح وتأخذه إلى «وادي عبقر»، بل كان يُسلس لها تارة ويعنّفها أخرى، حتّى روّضها، فكانت سلسة بجمال، تصفُ وتُمتِعُ في الآن نفسه، ففي «بداية» قصّته العيّنة نقرأ «على هامش نزعاته المتواصلة التي أنهكت مخيّلته جزعاً، كان لا بدّ له أن يتوقّف عند نقطة معيّنة ليبدأ مشواره، فيما إذا أتحف غايته بجبٍّ من التكهّنات المالحة، أطلقَ تنهيدةً محشوةً بالضجر، ليمضي وفورته المعتادة: لا سر في الكون، يضحك كثيرا ليدخّن أكثر ويسرح إلى حيث ما اقتاده هذيانه، وكان إذا أصابته لوثةُ الشكِّ أحدَّ بصره الحالم نحو زاوية ما ليوقدَ في سرّه لحظة اليقين، لكن سرعان ما تتعرّى حاجته لدفقٍ من الأسئلة الشقيّة ليخبو وتخبو معه ارتساماته المنغمسة بالذهول…».
في هذه البداية الواصفة تتقلّص اللغة، ويظهر بخلها، وتتفشّى انزياحاتها ومجازاتها، لكي تحلّل شخصية البطل، وترسم لنا ملامح دواخله النفسية، وتكشف عن هوس السؤال الوجودي عنده، فـ «النزعات تنهك المخيلة» وثمة «جب من التكهنات» وهي ليست تكهّنات عادية بل تكهّنات «مالحة»، تتبعها تنهيدة شعرية جدا لأنها محشوة بالضجر، وحين يوقد البطل «لحظة اليقين» تنتهي به «أسئلتُه الشقية» إلى
الانطفاء.
وهنا تتكشّف لنا شخصية البطل، بلغةٍ مبلّلة بانزياحات تُسهم في إمتاع المتلقي، فتؤدي وظيفتها الجمالية، وتدسّ له المعنى خلسةً، فتؤدي وظيفتها التوصيليّة، وهي بين هذا وذاك، تحطّم قيود اللغة المعياريّة اليوميّة الباردة، وتنتهك منطقها، فتجعل التكهنات مالحة، والتنهيدة محشوة بالضجر، والأسئلة شقية، لتضعنا أمام مشهد البطل وهو يصارع أسئلته ويجهد ذاته ويجلدها، للعثور على مخرج من غرفته «مكانه المعادي».
وتستمرّ القصة على هذا المستوى من اللغة الشعرية المتعالقة مع تقنيات السرد تعالقَ توافقٍ وتجاذبٍ، لا تعالقَ تنافرٍ وتباعد، وهي بذلك ترفع من شأن القص، وتميّزه عن المشاع الفاتر أو البارد من ألوان القص التي كثْرت حد التخمة.