رواية ما بعد الاستعمار في العراق

ثقافة 2022/06/30
...

 حمزة عليوي 
في العالم العربي ثمة سيولة مفاهيم واصطلاحات لا حدود لها، ولا ضابط لها مطلقا. عندنا جامعات ومجلات بحثيّة، وهي ترجمان لما قاله المرحوم الرصافي قبل عقود بعيدة «علم ودستور ومجلس أمة.. كل عن المعنى الصحيح محرّف». فلا أحد يعرف لماذا صار فلانا كاتبا مشهورا، ولا أحد يقول لنا كم باع هذا الكاتب من نسخ روايته، ولا نعرف ماذا يفضِل القراء من أنواع الكتب والموضوعات.
ببساطة لأنه لا توجد عندنا مراكز بحثية تجري دراسات شاملة بهذه المواضيع. وإن وجدت فإنها ستكون جزءا من مؤسسات الترهل الحكومي غير المجدية، يديرها مسؤول وصل إلى منصبه بالتزكية وعدم التخصص. وتلعب الترجمة وما تريده الحكومات العربية دورا رئيسا في إشاعة مصطلح ما، أو مفهوم ما. في نهاية السبعينيات، مثلا، كان العالم العربي يشهد بداية كبرى لمرحلة جديدة في النقد، سمَّاها بعضهم موجة النقد الجديد، وسمَّاها آخرون مرحلة النقد البنيوي – البنائي. وكان المطلوب من ذلك النقد إزاحة مفهومات النقد المرتبطة، بل والمتجذر في رحم المنهج الواقعي السائد وقتذاك. وفي هذا السياق فقد فاجأت مجلة الأقلام العراقية الشهيرة قرّاءها عام 1978 ببحث كتبه السيد كمال أبو ديب، وكان أشبه بمتتالية عددية، بحث مغلق على نفسه ورموزه. في وقتها سألوا أحد خريجي هارفرد عن المقال، وكان مترجما معتمدا، وناقدا مختصا، فأجابهم بـ «لا أفهم أمرا!». وظل سوء الفهم حاضرا من جانب النقد، فيما واصل الكتاب العرب كتابة
نصوصهم. 
اليوم تشيع عندنا مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، وجلّها مستورد من الدراسات الغربية بمختلف لغاتها، ونحن نستقبلها برحابة صدر، ولا سؤال عن جدارتها عندنا. أو بأدق هل لدينا معادل لها، هل هناك أدب عربي يمثلها؟ ومن هذه مصطلح أدب ما بعد الاستعمار، أو رواية ما بعد الاستعمار. فهل ما كتب وصدر من نصوص عربية إبداعية يشرِّع هذا الاهتمام الكبير بهذا المصطلح؟ أشك.. في الحقيقة، إن الروايات العراقية المكتوبة من منطق ما بعد الاستعمار تعدُّ على أصابع اليد، ويمكنني أن أذكرها هنا: «رياح شرقية.. رياح غربية - الصقر»، ملائكة الجنوب - نجم والي» و»الحفيدة الأميركية - كجه جي». ويمكن لآخرين أن يضيفوا روايتين أو ثلاث، وقد تصل، تمحلا، إلى خمس. ولا بأس، لكن هل يمكن أن يُعقد مؤتمر كبير، ويوصف بـ «الدولي» لأنَّ هناك عشر روايات في مجمل الرواية العراقية قد كتبت أو حاولت تمثل منطق ما بعد الاستعمار؟! أليس هذا إجحافا وتنكرا لواقع الرواية العراقية الذي يقول ويشير إلى أمور أخرى؟
يعتقد «طلاب» الشهادات وغير المختصين بالرواية والسرد أن الاحتلال الأميركي للعراق قد أنتج رواية ما بعد الاستعمار، ويمضون بعيدا في تصوراتهم فيؤسسون قولهم على منطق وجود «الآخر» الأميركي بالطبع، وهذا أمر غير حقيقي، ولا أساس له؛ لأن وجود الأميركي - الآخر له منطقه «المحايث»، لكنه لا يؤسس لرواية ما بعد الاستعمار. كان المرحوم «مهدي عيسى الصقر» قد كتب رواية ممتازة، استخدمت الآخر الأميركي، وهم الجنود الأميركان السود غالبا. ولقد صارت هذه الرواية مزارا لكتبة المقالات والبحوث بعد احتلال البلاد، ظنا من الأخوة الأفاضل أنها رواية ما بعد الاستعمار، بينما الواقع، أقصد نص الرواية، لا يفيد من وجود الآخر - الجنود الأميركان سوى بمسألة واحدة، إنهم فقط مجرد «ديكور»، أو إحدى ثيمات الرواية المساعدة. وكاتب من شاكلة «الصقر» لا يمكن أن يخدع نفسه مطلقا، فيُشرك الأميركان «الجنود» بالحدث، لا يمكن أن يسمح لفعلهم أن يكون مؤثرا بمسار فعل وحركة شخصيات
الرواية.  وهذا المنطق اختلف عند الصقر عندما كتب روايته المهمة - المهملة لدى طلاب الشهادات «رياح شرقية .. رياح غربية». في مصر والسودان والمغرب إلى حد ما، هناك رواية ما بعد الاستعمار. والمفارقة أن الكتاب الفلسطينيين، في الداخل والشتات، وهم أكثر الناس كتابةً ضد منطق الاستعمار الاستيطاني – الصهيوني، فهم ضحايا هذا الاستعمار، هؤلاء لم يكتبوا رواية ما بعد الاستعمار. هناك بواكير لهذا المنطق في روايات المرحوم «غسان كنفاني»، وقد نجد مثلها في رواية «المتشائل» لـ»أميل حبيبي». ويمكن أن نقول هذا الكلام حكما أوليا على بعض روايات إلياس خوري. وتتعمق المفارقة كثيرا عندما نجد كما كبيرا من الدراسات النقدية الفلسطينية عن رواية ما بعد الاستعمار، أشهرها كما أظن كتاب «الرسيس والمخاتلة، خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر»، الذي ناقش حضور هذا المصطلح ومنطقه البحثي في النقد العربي الحديث، ومؤلفه يحيل ويراجع عشرات الكتب والدراسات النقدية في هذا الموضوع، فيما الواقع، أقصد الرواية العربية بطبعاتها المختلفة والمتعدِّدة لا تؤيد هذه المزاعم. ولكن لماذا ظهرت رواية ما بعد الاستعمار في مصر والسودان والمغرب؟ يمكن لكتبة المقالات والبحوث أن يجدوا الإجابة هناك، في القاهرة أو الخرطوم وفي طنجة والدار البيضاء، وليس في بغداد التي لم يترك البريطانيون فيها سوى مقبرتهم، ولولا ضعف وسائل النقل آنذاك وبطؤها لما وجدنا مقبرة ملكية في بغداد، ولما أسس الإنكليز وحدة «نومانس لاند -  No Man,s Land. 
أيها السادة، يمكنكم أن تتجولوا في القاهرة والخرطوم وطنجة، وستعرفون لماذا كتب الطيب صالح رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال”، وهو ما فعله مواطنه لاحقا حمّور زيادة في “شوق الدراويش” وغيرها. في بغداد، المدينة المدمَّرة، لا يوجد أدب ما بعد الاستعمار، ربما سيكتبه جيل مقبل، عندنا الآن رواية عراقية لكنها لم تكتب من منطق ما بعد الاستعمار مطلقا؛ فلا علي بدر كتب رواية ما بعد الاستعمار، ولا أحمد سعداوي، ولا حميد الربيعي، ولا أحمد خلف، ولا عبد الخالق الركابي، ولا أي اسم أدبي معروف عندنا.. فالرجاء أن تدرسوا الروايات العراقية بعيدا عن “هوسة” المصطلحات التي تطحن رؤوسكم؛ فالنص هو الحاكم، ولا سبيل غيره!