مقطعٌ عرضيٌّ لنصِّ الشَّارع

ثقافة 2022/06/30
...

 عبد الغفار العطوي
في هذه الدراسة ستجتمع السيميولوجيا مع السيسيولوجيا في قراءة نصيّة الشارع (سيكون من باب المنهجية البحث عن هوية الشارع الذي سيكون مثاله شارعنا، وتسميته والتفريق بينه كنصّ اجتماعي خالص، له تاريخ مغمور وتواصليّة استثمارية وإشهارية، وبين كونه نصاً أدبيّاً، فنحاول إغفال هذا الجانب الأدبي) من منظورين سيميولوجي واجتماعي.
والدراسة هنا تأتي من تجربة دراسة الرموز التي يتحرك بها الناس، ولعل هذه الدراسة التي تنظر إلى الشارع  بوصفه فضاءً مستثمراً بحسب منطق رمزي، فإنّها تعد الشارع نصّاً قام بطريقة توزيع غير بريئة، غير إراديّة تمثل رمزيته بصورة من الصور الممكنة، ولكي نفهم هوية الشارع المحلي (شارعنا الفرعي ينكسر مباشرة من الشارع العام الجديد ذي الممرين في حي المهندسين- البصرة العراق) لا بدَّ أن نعرف أنَّ الشارع ليس المداس لأقدام المارّة العابرين، بل هو فضاء كل الأشياء والمحتويات في لحظة زمنيّة محددة، مثلما هو الكتابة والقراءة والصورة والعلامة التي تدل إرشاديّاً، وتلفت إشهاريّاً، ومعرفة أجزاء الشارع، وتاريخه كيف كان؟ وما تحولاته في البيئة قبل أن يمثل نصّاً سرديّاً تمتلكه ذواكر المارة، ويحولهم بدوره نصّاً اجتماعيّاً؟ 
من ناحية إدراكه عن أنه مجرد علامات غير لسانيّة، التي سأستعرضها في شارعنا بالذات، مع التذكير أنه (لئن كانت السيميولوجيا ترصد للعلامة أينما حلت في اللغة الصامتة والمسموعة، فإنّ السيميولوجيا الاجتماعيّة تقتفي أثر العلامة، وقد خضعت للتصرف بوطأة الاجتماعي عليها)، فهذه الدراسة يجب أن تؤكد على التعاون بين النص الاجتماعي، وبين كون الشارع نصّاً، بمختلف عناصره ومكوناته التي تتحدّد من (علوة الجنوب) إلى (صالون حلاقة نور بيوتي للسيدات) الواقفين بالتضاد (يمين – يسار) الأول في رأس الشارع الفرعي، والآخر في خلفيته، عند نهاية المنعطف الأول للشارع الفرعي الذي تزدحم في فوهته أقدام المارة، نساء ورجالاً، ويكثر تدفق النسوة المتشحات بالسواد، سواء على شكل عباءة سوداء من النمط التقليدي القديم (للنساء المسنّات) أو العباءات العصريّة السوداء ذات الصبغة الإسلاميّة، بخطوات الوقت العصر المسرعة نحو السوق البعيد، عند جهة القبلة المقابلة؛ الضفة الشعبيّة المكتظة بالعشوائيات القبيحة والمحاطة بالرجال من جميع الأعمار يتملّقون أجساد النساء المخفية وراء السواد الذي يفشل في إخفاء تفاصيل تلك الأجساد المكتنزة (خاصة من ناحية حي المهندسين، الحي الراقي الخالي من المارة كلما أسرعت الشمس إلى المغيب وهبط الحر معها) إن هذا الشارع رغم رفاهيته بلا تسمية، ولا عنوان، ولا ترقيم، لكنه يمتاز بأنه (حي المهندسين) من دون أن تجد أي مهندس يملك فيه منزلاً، وسمي بـ (حي المهندسين) نسبة للأرض التي كانت بوراً، تملؤها المستنقعات والحيوانات الضارية، لكنها استصلحت أخيراً مع زيادة عدد السكان الغرباء وبيعت لنقابة المهندسين، عندما كان العراق محاصراً من قبل  الغرب 1990. 
هذا النص الذي يؤشر إلى تطور العلامات التي تحدده سيميولوجياً، من كون شارعنا جزءا من المدينة الجديدة الغاطس في المستنقعات قبل عقد من الزمان، واتساعاتها التي فرضتها هجرات الريفيين إلى مدينة البصرة التجاريّة، التي تمتلك عدة منافذ بريّة وبحريّة على دول الجوار، مثلما شوّهت معالمها القديمة الحروب المتوالية، فبدت مدينة هجينة، تسترعي الانتباه.
 طريقة استعمال  اللغة المستخلصة من الازدواجية  اللغوية، التي تؤكد أن هذه المدينة عاشت مجتمعاً لسانيّاً متعدداً، فتأكيد مريام مايرهوف أستاذة اللسانيات الاجتماعية في جامعة أدنبرة في أن المشاركين في اللسانيات الاجتماعية هم معنيون بكيفية استعمال تلك اللغة، من هنا وجدت اللسانيات الاجتماعية أن اللغة تلعب دوراً مهماً في السياق الاجتماعي، بما يتعلق بالتعدد اللساني في اللغة الواحدة، حينما تصطبغ بالمحليّة اللغويّة، يؤكد باولو جيجليولي أستاذ علم اجتماع الثقافة في دراسته (اللغة والسياق الاجتماعي) على أن علم اجتماع اللغة هو الذي يقوم بمهمة الجمع بين علم الاجتماع واللغة، والذي يهتم بتحليل الدور الاجتماعي للغة، خاصة في المجتمعات التي تعيش عاملاً ثقافياً لسانياً متعدداً لفترة طويلة، ويترك السلوك الثقافي للغة آثاراً، في أن تتخذ العلامات اللسانيّة رمزيّة غير لسانيّة، ففي الشارع نجد الاختلاط في نصوص التواصل التي تعتمد على العلامات الصامتة، التي نجدها في دراسة (الازدواجيّة اللغويّة) التي قدمها تشارلز فيرجسون، وكيف سنفهم فاعليّة تلك الازدواجية في المجتمع الجديد – القديم في شارعنا في فترة تحولاته الحضرية الشاهدة على المحتوى الإيكو ميثولوجي (الجمع بين البيئة الرثة الواقعيّة والتصورات الخرافيّة التي تسوغ الرثاثة بمفهومها اللغوي) وفي الأساس، إن اللغة والثقافة هما اللتان تظهران ذلك، لا سيما اللغة حيث لاحظ هايمس، بذكاء شديد حين قال: لا يمكن أن يتساوى دور اللغة في التواصل وفي القيمة الاجتماعية في كل مكان، وهذا ما لم يدركه اللسانيون والسسيولوجيون إلّا متأخراً، فالتنوع اللغوي لا يصيب المجتمع فقط بأكمله، بل أحياناً يمارسه الفرد في مناسبات تقتضيها الثقافة التي تقوم بالتركيز على الجوانب السايكولوجية والاجتماعية للغة، فاستخلص هؤلاء اللسانيون، وكذلك الانثربولوجيون نحو ظاهرتين مهمتين في اللغة هما: الدور الوظيفي المختلف للغة في المجتمعات المختلفة، واستعمال شفرات لغوية متعدّدة داخل المجتمع الواحد، لهذا فالنص الاجتماعي الذي يرسم عالم العلامات الصامتة في شارعنا ينتزع  التحول التاريخي لتلك العلامات، وهي تأخذ مجرى إلى الوضع الطبيعي للعلامات غير اللسانيّة، فشارعنا هو فرعي مستحدث، يبلغ طوله 40 متراً بتبليط جديد، على جانبيه رصيفان مقرنصان، يخلوان من معالم التشجير للدلالة على النزوع الصحراوي للمدينة الجديدة، بعكس المدينة القديمة التي تمتاز بكثافة الزرع، يستقبل الشارع العام (علوة الجنوب) التي اعتمدت على ما يسميه فيرجسون (التكهن غير الحاسم بالنسبة للازدواجيّة اللغويّة العربيّة) التي تعني تطور بعض اللغات العربية الأنموذجية نحو لغات سائدة (لغات العواصم بالذات). 
فالمعروف أن معنى (العلوة) في الاستعمال المعجمي القديم تعني غير ما نراها في هذه العلوة الفخمة التجارية الغائصة بالبضائع المستوردة، وفي الطرف القصي (صالون حلاقة نور بيوتي للسيدات) الغاص بالعلامات الصامتة، فهو عبارة عن (محل) معد لبيع الحاجات المنزليّة، ويطغى اللون البني الكالح على بوابته الأولى التي تنفتح في تمام الساعة الرابعة عصراً من كل يوم، الصالون له بوابة أخرى مغلقة دوماً بيضاء وسخة وصدئة، والإعلان الذي يشير إلى كونه صالوناً لحلاقة السيدات يحمل صوراً أيقونية لسيدات مسفرات الشعور بخط أسود ممحو قليلاً وشاحب، بينما يستقبل السيدات المحجبات طوال الوقت، وهن يهبطن من عربات رخيصة الثمن، مسرعات نحو البوابة البيضاء بطرقات متأنية، وتضوع رائحة عطر رخيص وفي خروج بعضهن تنتشر شعيرات بألوان شتى مصبوغة، لغة عنوان (الصالون) تعتمد على الازدواجية اللغوية، التي تعبر عن التعدد اللساني الذي يحتويه الصالون، ولعل المدة الزمنية التي يتحول فيها الشارع إلى دلالات رقمية عن العصر، من ناحية أن قراءة الظواهر الاجتماعية قراءة نصيّة تعتمد على فكرة الممارسة السيميولوجية.