في ضيافة المقَدَّس

آراء 2022/06/30
...

  رعد أطياف
 
مشكلة الأفكار السامّة أنها تحيل إلى غيرها وتستدعي ما يماثلها. أنها سلسلة من التدفقات والإحالات، كل فكرة تحيل إلى ما يشابهها من حيث الخصائص النوعية. الفكرة الأولى ترتبط بالثانية وهكذا دواليك. أنه ليس ارتباطًا يحدث بالصدفة وإنما بالاعتياد؛ فأفكار الغضب تحيل وترتبط بما يماثلها من أفكار، وأفكار الجنس كذلك، وقس على ما سواها. والجامع لهذه السلسلة الهوجاء هي قوة الاعتياد الشرسة.
في نوبات الغضب، على سبيل المثال، تبدأ عملية السلب، وهي كالآتي: تختفي كل الأفكار الوديعة والمسالمة وتحل محلها مصفوفة من الأفكار السامّة التي لها قابلية النفخ في جمر الغضب. وتغدو عملية الاستدعاء بشكل سريع كما لو أنها معجلات نووية!؛ ترتصف مئات الأفكار في لحظة خاطفة وجنونية بحيث لا يُسمح لأي فكرة طارئة وغريبة أن ترتبط في هذه السلسلة الجنونية، إذ لا يحق لأي فكرة أن تحضر ما لم تكن من العائلة السامة نفسها!
 إن ديمومة هذا الجرح النازف تعتمد بشكل جوهري على قوة العادة المتأصلة في الذهن؛ فالشخص الذي يتمتع بالصبر وطول الأناة تنزلق منه أفكار الغضب بسرعة، ولا يمكن لعملية الاستدعاء والترابط والإحالة أن تأخذ مجراها في ذهنه، ذلك أن عادة الغضب لم تتأصل في ذهنه.
في حين يتعذب الشخص الغضوب من هذه العملية المفزعة، لأنه واقع تحت ضغط العادة الشرسة التي تتحكم بمجمل قواه النفسية. لذلك، وعلى سبيل الافتراض، يمكن تغيير دفّة الأفكار بإشغال الذهن بموضوع آخر لكي يركز على نقطة مغايرة.
 لكنه قد يمارس خديعة أخرى؛ فأثناء الانشغال بموضوع آخر ستتسلل الأفكار السامة من جديد ويغدو معها الشخص كما لو أنه فاقد للوعي ومنفلت الإرادة. بيد أن الممارسة المستمرة على هذه الحالة قد تنجح في نهاية المطاف خصوصاً إن كانت مشفوعة بالرأفة اللا مشروطة.
لا ترياق لسمومنا النفسية مثل الرحمة والشعور الأمومي تجاه الآخرين الذين تفترسهم المعاناة. الرحمة هي تعميق الأمنيات تجاه الغير ألا يطولهم الأذى وأن يعيشوا سعداء مثلما نتمناه لأنفسنا. يكفي أن نطهّر دوافعنا بهذه الأمنية؛ حتى وإن لم تصل الأماني لمبتغاها، فمن المؤكد سيصيبنا شيء من نعيمها. لحظة التراحم هي اللحظة التي يزورنا فيها المقدس بلا حاجب أو بواب وينتشلنا من العتمة النفسية التي نكابدها. لكل واحد منّا لحظات تعاطف مرّ بها في حياته: مع المرضى، الفقراء، الأمهات المفجوعات، المهجرين في العراء، الحيوانات.. مؤكد أنها لا مست جزءًا من روحه وأحالت ثرثرته الذهنية إلى سكينة مؤقتة.. في هذه اللحظة بالذات نكون في ضيافة المقدّس.