ريتا دوف.. أغنيةٌ مدى الحياة

ثقافة 2022/07/01
...

 علي محمود خضيّر
تصدر تعبير "نهاية العالم" محركات البحث في السنتين الأخيرتين مسيطراً على الأذهان وحابساً للأنفاس. تحديداً والبشرية تخوض حربها ضد وباء كورونا والذي أودى - حتى كتابة هذه السطور- بحياة أكثر من ستة ملايين شخص وأصاب أكثر من 543 مليون شخص في أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن استعمال مصطلح "نهاية العالم" أدبياً حديث، إذ تمّ تسجيله لأول مرة أواخر القرن التاسع عشر. تعتمد مجموعة ريتا دوف الشعريّة الجديدة "قائمة تشغيل لنهاية العالم"، على مشاهد متفرّقة تجمع الماضي والحاضر. من فصل اليهود في "غيتو" البندقية إلى قصف الكنيسة المعمدانية في برمنغهام.
ومن علاقتها مع والدتها، إلى صراعاتها مع مرض التصلب المتعدّد الانتكاسي. لحظات هادئة وخاصّة يتغير فيها عالم المتكلم، فجأة أو بشكل غير محسوس. تشبه هذه القصائد، في مجموعة من التواريخ والشخصيات المتباينة التي تستحضرها، قائمة التشغيل "البلاي ليست" في الهواتف المحمولة: مجموعة مختارة من الأغاني المُنَسَّقة من مجموعة متنوعة من الألبومات والفنانين. كرنفال من الأصوات والأمزجة والموضوعات المختلفة. 
المجموعة، هي أوّل كتاب لدوف منذ 13 عاماً تتويجاً لمشوارٍ مستمر منذ 40 عاماً حصلت فيه على أعلى الجوائز في الشعر، كجائزة الشاعر الأميركي، جائزة بوليتزر، والميدالية الوطنية للفنون، ما جعلها شاعرة أساسية في المشهد الشِّعريّ الأميركي، و "من أكثر الشخصيات الأدبية احتراماً" بحسب اليزابيث لوند محررة واشطن بوست، من خلال براعتها في نسج الشعريّ بالسرديّ على نحو متفرّد. في مقابلة أُجرِيَتْ معها مؤخراً قالت دوف عن هذا الصمت الطويل: "كنت مشغولة جداً بالتحدّث باسم الشعر! لم أعد أسمع نفسي. في كل مرة حاولت فيها الحصول على الوقت والهدوء حاصرني الفشل". كأنّها شاءت تحاشي الإشارة لتشخيص إصابتها بمرض التصلب المتعدّد، ما جعلها عاجزة عن الكتابة باليد؛ والتدريب على استعمال لوحة المفاتيح. وعلى ما يبدو فإن الحَظر العام الذي فرضه كورونا منحها مساحة لسماع صوتها الداخلي، إذ جمعت قصائد كتبتها على مدى ثلاثة عقود لترى كيف تتفاعل مع بعضها البعض، تماماً مثل "بلاي ليست".
*
تُعرَفُ دوف بالكتابة عن التاريخ من منظور شخصي. واحدة من أكثر قصائدها شهرةً هي "بارسلي"، التي نُشرت في كتابها الثاني، المتحف (1983). في عام 1937، أمر الدكتاتور الدومينيكاني رافائيل تروخيو جيشه بذبح أي شخص لا يستطيع نطق كلمة "بقدونس" باللغة الإسبانية، على اعتبار أن الهاييتيين الناطقين بالفرنسية لا يمكنهم لف ألسنتهم للحصول على صوت ""r في القصيدة، نطالع صوت عامل هاييتي في حقل قصب السكر، وإرهاب الديكتاتور الذي يُشبع المشهد الرعوي دمويَّةً، لتتحول إلى تصوير شخص ثالث مقرب للجنرال في قصره، محطّماً عند وفاة والدته المفاجئ.
تقول الكاتبة بريندا شوغنيسي، "دوف ماهرة في تحويل عنصر عام أو تاريخي - بإعادة تصور مشهديته - إلى أفكار خاصّة أصلية تظل هذه اللحظات التاريخية مشتملةً عليها دائماً".
تواصل الشاعرة استثمار التوتر بين السياقين العام والخاص داخل الديوان على نحو بارع. في إحدى محاضراتها، تقول الفائزة بجائزة مكتبة الكونغرس عام 1994، عن حاجة الشعراء للخروج إلى العالم: "علينا العثور على مزيج مثالي بين اللحظة الداخليّة ونبض العالم. ربما عندما نبدأ في إشراك أنفسنا في العالم. عندها فقط سنسمع الرنين داخلَنا". سمِعت دوف أصداء العالم تلك، جليةً، في عام 2020، عام الوباء الثقيل، وجسّدتها في كتابها الأخير الذي وصل إلى القائمة النهائية لجائزة لوس أنجلوس تايمز 2022. هذا لا يعني أن الوباء يمثّل مرجعية الديوان الوحيدة، فالقصائد لا تتعلّق بالكوفيد وتداعياته فَحَسْب. بل تذهب إلى استرجاع تجارب الشاعرة الإنسانيّة والاجتماعيّة ومشاركة آرائها السياسيّة.
محور رئيس في كتاب دوف الجديد هو أغنية "شاهد دائم"، المكتوبة بالتعاون مع الملحن ريتشارد دانييلبور والتي كان من المفترض عرضها لأول مرة في مهرجان تانجلوود للموسيقى عام 2020. في هذه القصائد الـ 14، تشهد دوف على نصف القرن الأخير من التاريخ الأميركي، بدءاً بالمؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 1968 إلى وودستوك، وُوْتَرغيت، حرب فيتنام، أزمة الرهائن الإيرانية، سقوط جدار برلين، هجمات 11 سبتمبر، باراك أوباما، وصعود دونالد ترامب. عنوانات هذه القصائد، مثل "بجانب الباب الذهبي" و "أمّ المنفيين" و"امرأة، أفلام" هي عبارات من سوناتة إيما لازاروس "العملاق الجديد"، المنقوشة على قاعدة تمثال الحرّيّة. لا تكشف المتحدّثة عن نفسها حتى القصيدة الأخيرة، ولكن، ليس من الصعب تخمينها منذ البداية، إنها السيدة "ليبرتي".
تغلّف دوف ببراعة الشعور الجمعي بالضيق من اضطرابات العقود الأميركية الماضية التي أدّت إلى اللحظة الراهنة. بدايةً بالحركات الناشطة في الستينيات والسبعينيات، والمحادثات حول هيكلة السلطة التقليدية ـ التي ما تزال تُثار حتى اليوم. التهديد جرّاء انتقادات السلطة، الاحتجاجات السلمية التي عُدّت "توغلات عنيفة". في قلب هذه الاشتباكات الأيديولوجية تأتي مسألة تبدّد الحلم الأميركي بـ "الحقيقة والمصداقية".
واحدة من المقاطع الرائعة في هذا الفصل القصيدة الثانية، "تعبك يا فقير ..." التي تدور أحداثها في عام 1968:
من يريحك الآن بعد أن تحطّمت العجلة؟
لا مزيد من الأمراء للفقراء. الخسارة تضعفك.
الحزن هو الحقيقة الآن،
 آمل أنها آخر كلمة منطوقة.
 
كرّست اغتيالات مارتن لوثر كينغ وروبرت ف. كينيدي منعطفاً في المزاج الاجتماعي الأميركي؛ تحوّلت البراءة على ما يبدو لطفرة شريرة بعد الحرب. تسألُ الشاعرة عن العزاء عندما يتمزّق النظام الاجتماعي. في مقابلة صحافية، تقول دوف، في ما يتعلّق بميلها إلى قصائد "الشخصيات التاريخيَّة"، إنّها تقوم أوّلاً بالتحري والبحث لترى ما يمكنها فعله: "يبدو الأمر غامضاً نوعاً ما، ولكنَّني عندما أبدأ الكتابة، أشعرُ أنّهم يكتبون من خلالي، أو أننا نجري محادثة مع بعضنا البعض، كل قصيدة شخصية، هي في الواقع، قصيدة سيرة ذاتية أيضاً. على الرغم من أنني لا أحب الكتابة عن نفسي، إلّا أنني لا أحب الكتابة عن ذات غير مصفاة".
تحفل المجموعة بقصائد شخصية كُتبت عن حياة أفراد، من هنري مارتن، العبد المحرّر من مونتيسيلو الذي عمل لسنوات قارعَ أجراسٍ في جامعة فرجينيا، حيث درّست دوف لثلاثة عقود، إلى سارة كوبيا سولام، الشاعرة والفنانة، في البندقية إبّان القرن السابع عشر. لكنها ذهبت بعيداً في جموح خيالها أن كتبت قسماً من القصائد بصوت لعبة الكريكيت!
تعزو دوف فكرة لعبة الكريكيت إلى ابنتها "أفيفا" في سن الخامسة. "هذه ليست قصائد تافهة؛ تتأمل لعبة الكريكيت في مواضيع مثل الزنجي وعيد الحب والهيب هوب. في الكتابة 
من هذا المنظور، تلفت الفكاهة والمفاجأة النظر إلى ما يمكن من موضوعات هامشية".
حضور لعبة الكريكيت، في المجموعة ليس استدعاءً ساخراً (مُفارقاً)، بقدر ما هو إشارة لما يتم تجاهله في ثقافة الأمّة والمجتمع. إعطاء صوت للكريكيت تذكيرٌ بأن "الهامشي ليس تافهاً بالضرورة، بل إنه غالباً ما ينطوي على شيء قَيِّم يقوله".
*
"كتاب الويل الصغير"، عنوان القسم الأخير من المجموعة. وفيه تتخلّى دوف عن الأقنعة والشخصيات والمواقف التاريخية لتروي، بأسى بليغ، صراعاتها مع التصلب المتعدّد الانتكاسي. يعيش القارئ مع شاعرته تداعيات المرض. يلمسُ، مع بدء العلاج التجريبي، تكيّفها مع حياة تكافح لتكون طبيعية. قررت الشاعرة إخفاء مرضها لسنوات عن جمهورها وحتى والديها. تطل القصائد على داخل الشاعرة المحطّم، تتأمّل تحولات عالمها وهي تواجه ما يمكن أنه نسميه "نهاية العالم الخاص بها". تكتبُ عن تحضير الحساء كغذاء بسيط يوم وصول تشخيصها، تفرد مساحة لكتابة العيش بألم مزمن، ومساحة أخرى عن تعلّم الرقص من جديد:
"إذا فكرت في الأمر،
كل شيء ينطوي على شيء آخر في داخله؛
كل شيء مخبَّأ في مظروف
والألم يعرف طريقه لكل شق".
 
ثمّة قصائد تواجه فيها فكرة موتها، كما في "الكلمات الأخيرة":
"لن أقابل الموت في حقل
مثل نقطة في صفحة ما".
تعود دوف إلى حياتها كاشفةً عن هواجسها النفسيّة عبر لحظات خاصّة تختبر تحويل الكوارث إلى "هارموني" ناجح وأغنية – في قائمة تشغيل - تستعاد مدى الحياة. إنها الموسيقى اللازمة للحظتنا المضطربة بحسب تعبير البوسطن غلوب.