أنا أمشي إذن أنا أفكّر

ثقافة 2022/07/01
...

 كامل عويد العامري
صديقان يمشيان. أحدهما فيلسوف -روجيه بول دروا-  والآخر طبيب أعصاب - إيف أجيد يتحدثان من أجل المتعة، أثناء المشي، ولمدة أربعة مواسم، في الحقول والغابات. كانا يتحاوران بحرية، ومن دون نهج محدد، وهما يسعيان لفهم ما يحدث في دواخلنا ونحن نسير. هل المشي يعزز التفكير؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا؟ هل الفكر مشابه للمشي؟ كيف يتحكم الدماغ في حركات الساقين وتوازن الجسم ووقفته؟ ما هي العلاقات بين خصائص الجنس البشري الثلاث: التفكير، والتحدث، والمشي باستقامة؟ لقد أثارا أخيرا العلاقة بين العلم والفلسفة، وطلاقهما المؤسف، ولم شملهما المتمنى. بين الاختلافات والتقارب، كانت رغبتهما المشتركة في الرؤيا بوضوح هي التواصل. وسرعان ما تقاسما فرحتهما خطوة خطوة، في كتابهما (أنا أمشي إذن أنا أفكر) الذي صدر في 2022-05-04 عن دار Albin Michel
بعد أن استهل المؤلفان بمقتبس من نيتشه (بهجة المعرفة ص 366) قوله: "سؤالنا الأول لتقييم كتاب أو رجل أو مقطوعة موسيقية: هل يعرف كيف يمشي؟"، وضعا هذه المقدمة، وهنا ترجمتها الكاملة:
• كان يا ما كان، كان هناك رجال يمشون ويتجاذبون أطراف 
الحديث بين أشجار الزيتون والحجارة. 
كانت أسماؤهم: طاليس، وسقراط، وثياتيتوس، وأرسطو، كان هؤلاء يجمعون المعرفة والتجوال، والتنزه والتأمل. ولم يميزوا بين العلم والفلسفة.
وفي زمن آخر، بعد خمسة وعشرين قرنًا، في مناطق جسدية وعقلية أخرى، كان هناك صديقان يسيران معًا. ما كانا عمالقين ولا عبقريين، فقط كانا يمتلكان عقولا 
فضوليَّة. 
في الأزمنة التي تعيش فيها الفلسفة والعلم، على نحو منفصل منذ مدة طويلة.
كما في سابق الأزمنة، كانا يتمشيان ويتحدثان أثناء المشي. كرّس أحدهما حياته للفلسفة، لنشرها فضلا عن ممارستها. وكرّس الآخر حياته للطب وأبحاث الدماغ.
كانا يسعيان بشكل متواضع، لإعادة ربط بعض خيوط الحوار الذي انتهى بين أصحاب الأفكار والعلماء. 
إنهما لا يتصوران ردم الهوة بين هاتين الثقافتين، ولا التغلب على الفوارق بينهما، لكنهما يسعيان لرسم الجسور. عن ماذا يتحدثان؟ وما الذي يفعلانه وهما يتنزهان: المشي والتفكير. لذلك فهما يتساءلان عن الإنسان ككائن مشّاء. عن الإنسان ككائن يتكلّم ويفكّر. إنهما يشكّكان في العلاقات، الغامضة تمامًا، بين هذه الخصائص المختلفة الخاصة بحالة الإنسان: التحرك منتصبًا على قدمين، التحدث والتفكير.
لأننا غالبًا ما ننسى هذه الحقيقة الأولى الواضحة: يتحرك الجنس البشري على الأرض بطريقة مختلفة عن جميع الأنواع الحيّة الأخرى. على الكوكب، فقط الجنس البشري يتحرك بهذه الطريقة.
ذات مرة، وقف قرد منتصبًا.. لا نعرف تفاصيل القصة، لكن يجب فحص هذه التفرد التأسيسي في علاقته بالدماغ البشري وتطوره، ولكن أيضا في أهميته الميتافيزيقية والتاريخية: ينظم البشر الواقفون مسيرتهم ويتحولون بواسطتها. لقد اكتشف الأرض وسكانها رجال كانوا يمشون. ولكنهم كانوا أيضا يفكرون ويتحدثون.
ماذا لو سأل المتجولان نفسيهما، هل كان المشي يجعل الأفكار تتدفق؟ وإذا كنا، بالمشي، نفكر أكثر وعلى نحو أفضل، فهل يمكن لوظيفة الدماغ أن تفسر ذلك؟
والأفضل من ذلك: ألا يكون التحدث والتفكير طريقتين للمشي؟ هل يمكن للأفكار أن تكون تجوالا على غير هدى وحركات بين الكلمات والجمل والأفكار؟
ومن هنا، هذا السؤال الذي يتقاطع أيضًا مع هذه المحادثات: هل ما يفعله الدماغ عندما نتحدث، وعندما نفكر، يمكن مقارنته بما يفعله عندما نمشي؟ هل يمكن أن يكون هناك مرساة عصبية مشتركة للمشي الجسدي والمشي العقلي؟
في الخلفية يستمر النقاش الحاسم في عصرنا: هل الجنس البشري نوع 
واحد من بين الأنواع الأخرى، في استمراريته مع الحياة والطبيعة، أم أنه يشكل استثناءً جذريًا، وحياة منقطعة، بالكلمة والعقل، مع الحيوانية التي تولد منها؟
بين الاستمرارية والتمزق، يسعى الفيلسوف وطبيب الأعصاب إلى التقدم خطوة بخطوة، من خلال مواجهة الحدس والمعرفة والتراث الميتافيزيقي والبيانات العلمية التي يوفرها استكشاف الدماغ. بل إنهم يحدّدان بعض الفرضيات التي لم يتم تأكيدها بعد. إنهما لا يتفقان. يميل رجل العلم نحو الاستمرارية والنهج المادي. ويؤكد الفيلسوف أن الكائن المتكلم لم يعد كائنًا حيًا مثل الآخرين، ويريد أن يبقي كل احتمالات التفسير مفتوحة.
بين الاستمرارية والتقطع، يسعى الفيلسوف وطبيب الأعصاب إلى التقدم خطوة بخطوة، من خلال مواجهة الحدس والمعرفة والتراث الميتافيزيقي والبيانات العلمية التي يوفرها استكشاف الدماغ. بل إنهم يحددان بعض الفرضيات التي لم يتم تأكيدها بعد.
الصديقان ليس لديهما المفردات والاهتمامات نفسها. لكنهما يستمران في اتباع المسارات التي تتخطى مشكلات كبيرة، من دون أن يأخذا الأمر بجدية مفرطة، حيث تلتقي الفلسفة والعلم أحيانًا ويفترقان أحيانًا، لكنهما لم يعودا يرغبان في تجاهل بعضهما 
البعض.
• كان روجيه بول دروا، فيلسوفًا وكاتبًا، وباحثًا في المركز الوطني للبحوث الاجتماعية. بلغت أعماله، قرابة الأربعين كتابا (بحوث، وعلم أصول التدريس، وتحقيقات، وروايات)، تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة.
• إيف أجيد أستاذ فخري في علم الأعصاب وبيولوجيا الخلية في جامعة السوربون، ورئيس سابق للقسم (مستشفى سالبيتريير)، وعضو في أكاديمية العلوم، ومؤسس مشارك لمعهد سيرفو. وهو 
متخصص في دراسة آليات وعلاج أمراض الانتكاسية العصبية
  neurodégénératives.