جدل الفلسفة بين التقدميَّة والرجعيَّة

ثقافة 2022/07/02
...

 حازم رعد
 
يقول غرامشي «رؤيا المرء للعالم هي انعكاس لمشكلات معينة يطرحها الواقع، وهي مشكلات غاية في الخصوصيّة والتفرّد من حيث دلالتها المباشرة، كيف يمكن التفكير في الحاضر، وهو حاضر متميز بطريقة في التفكير أنشئت لماض بعيد تمّ تجاوزه».
يتضمن النص أعلاه فكرة التجديد في الفلسفة، فهذا الجهد والنشاط «الفلسفي» يشكل رؤيا الإنسان وفكرته عمّا يتعرض إليه ويصطدم به من مشكلات وأنواع مختلفة من الصعوبات ولكلّ واحدة منها خصوصيتها، فالتنوع سمة أساسية للمشكلات تلك وللأفكار التي سوف تبتكر لأجل أن نكوّن الحلول لها، فالتجديد في طريقة التفكير هو المطلب الأساس للتقدم والتطوير وتجاوز القديم الذي يعتقد أنه فقد إمكانية مواكبة الحاضر فيعجز عن إبداء أي شكل من العطاء والإفادة منه. من هنا اجترح وصف «الفيلسوف التقدمي» أي الذي يتعهّد بمزج النظرية بالتطبيق والنشاط النظري بالممارسة العمليّة، بمعنى أنها تطلق على من ينتهج الاشتغال في دائرة التحديث وابتكار مقاربات وأفكار تتجاوز ما هو قديم وما ثبت انتهاء صلاحيته للإفادة أن هكذا فلسفة تكون مهمومة بإيجاد معالجة لرداءة المشهد الذي يمثل الإنسان أحد فصوله وترميم الاعوجاج الحاصل في الواقع على المستوى اليومي، ولما يحدث في هذا الواقع الذي قد يمنى بتوقفات نتيجة تلك تلكؤات ومعوقات تقف عائقاً يحول من دون تطور وتقدم الإنسان ومواكبة التحديث بأفكاره وممارساته وعتبة وعيه وتنعكس كمعضلة يصعب تجاوزها.
فحتى يمكن للإنسان أن يخطو للأمام في سلم التطور ويواكب عجلة التغير والتبدل في الحياة لا بدّ أولاً من التغيير في طريقة تفكيره، وكذلك أن يمزج النظرية بالفعل والعمل، أي أن يمارس التغيير فعلاً ولا يكتفي بالتنظير والتأمل. 
فالفلسفة التقدميّة «أي الممارسة» موقف راهن يتخذه الإنسان تجاه المشكلات التي تعصف به والواقع الذي يعيش بين ظهرانيه ويكوّن عنه رؤيا وفكرة وطريقة ممارسة، وهي تجاوز مستمر للقديم وانتقال من التنظير إلى النشاط والفعل وإيجاد نوع من المقاربة بين أشياء الواقع مع الفكر الإنساني، فحينئذ يتعدى الفيلسوف حدود تكوينات «العقل» وإبداع المصطلحات ليمارس حالة جديدة ويقدم دوراً مهماً في ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون ويحقق على أرض الواقع على مستوى السياسة ونوع العلاقة بالآخرين وتحديد الموقف الأخلاقي تجاه الطبيعة وكيفية استثمارها بما لا يعود بالضرر على الإنسان والأشياء نفسها. بل وينتقل إلى التعهّد بمحاولات ترويض «الإرادة العامة» ما تمكن من ذلك عن طريق بث الوعي من خلال القنوات المختلفة وطرح الأفكار الصائبة والتأشير على الأخطاء التي يقترفها الأفراد داخل المنظومة الاجتماعيّة، وفي كل ذلك يكون مستعيناً بالأدوات العقليّة المقبولة في كونه الفيلسوف «التقدمي» المسؤول عن تربية المجتمع والعمل على إصلاحه وتأهيله ليتقبل الآراء المختلفة وتعزيز التنوع البشري والتعدديّة والانفتاح على الآخرين والتعايش السلمي وإرساء قيم التسامح والاعتراف، وتحديث كل ما صنف بعدم المقبوليّة بالواقع وصيانة الخصوصيات الحضاريّة للجماعة الإنسانيّة ليرسم الخطوط العامة للتفلسف كنظرية للكون والحياة والأشخاص. فلذا أن فلسفة الممارسة أو التقدميّة هي ترجمة الأفكار إلى المفاهيم معمول بها فعلياً والعمل على كون تلك المفاهيم سلوكا ونشاطا في الحياة بهذه الطريقة فقط تجد الفلسفة تمثلاتها في الحياة وفي الشارع وفي العلاقة مع الناس فالممارسة كما يرى لويس ألتوسير كالنظرية السياسية بالنسبة الى الواقع الذي تغذيه وتمدّه بما يحتاجه من أدوات وآليات للعمل والفعل.وأما اتخاد طريقة الاعتزال عن الواقع والابتعاد عن الهموم اليوميّة وعدم مشاركة معاناة الناس في الحياة بحول من دون إنزالها منزلة العمل والممارسة فيعني ذلك موت الفكر الفلسفي والحكم عليه بالنفي والنهاية.
ويكون الطابعة العام لهذا اللون من التفكير الانزوائي الذي يستقيل من المسؤولية «فلسفة رجعيّة» لا تتعدى همومها مجرد استحضار  النتاج الفلسفي السابق «المقتبس من التاريخ» قد يرافقه تغيير طفيف في الألفاظ والمصطلحات البراقة وإسقاط على الحاضر وتحميله إياها بلا ممارسة وعمل جاد للتغيير والإصلاح   والفلسفة بهذا الشكل لا تعني سوى «معرفة تاريخ جثث الفلاسفة» كما يعبّر عنها هيغل، فعملك هذا اعتياش على منجز الآخرين مع استمرار حالة الركود المعرفي وجمود الواقع على نشاطه المألوف بلا أي جدوى وجودة هذا المنهج التقليدي الموسوم بعدم التأثير أو القدرة على التغيير رجعية وعجز عن تحمل المسؤوليات المناطة بالفلسفة في تحمل أعباء التغيير والتجديد والكشف عن بؤر الأخطاء.
مثل هذه الفلسفة عائق معرفي وتقطع الطريق أمام كل محاولات الفلسفة الحقيقية «كممارسة» وحراك متجدّد مهمومة بالواقع ومشكلات الحياة والإنسان.
ورغم المجاز المثقل به مصطلح الفلسفة الرجعية إلّا أنّه بحسب «غرامشي» تلك الرؤيا التي لا تعتني بالإنسان وقضاياه ولا تهتم للواقع واشكالياته، وإلّا فإنّ جوهر الفلسفة يقوم على العمل في الواقع ومحاولة التجديد فيه وتصويب حركته ونشاطه.
وهذا النمط من العزلة والانزواء للنخبة جعل الفلسفة عاجزة عن النشاط بسبب تعكزها على الرتابة المعهودة واختصاصها بفئة معينة من دون الفئات الأخرى من الناس وهم المهمشين الذين لم تخرج يد مسعف يستشعر معاناتهم ويشترك معهم نفسيّاً بهمومهم، وإذا ضمنّا هذا مع طريقة الطرح المعمّاة في لغة الفلسفة التي زادتها تعقيداً وأبعدتها عن متناول كل فئات المنظومة الاجتماعية وأضفت عليها نمطاً من التعقيد ارتكز في ذهنية العامة على طول الخط ممّا أسهم إلى حد كبير في ازدراء الفلسفة والبعد عنها وحدا بها إلى التراجع في مجال الممارسة ووصفت بأنّها رجعيّة .