ما الفائدة من فهم المقدس؟

ثقافة 2022/07/02
...

 عباس الغالبي 
تشكل الكتابة عن المقدس مخاطرة وتحدياً أمام أيِّ كاتب، فملامسته أدبيّاً مثل ولوج دائرة حرجة، إنه منطقة محرّمة ولكنها في الوقت ذاته موجبة لخوض التحدي الذي يمارسه الكاتبُ بوعي، وعي يحمل في طيّاته رغبة معرفيّة وإنسانيّة هي في جوهرها غاية كل أدب وفن. إنها وظيفة تقابل محاولات المشاكسة والهتك والتدنيس لأهداف ذاتية وعبثية لا يمكن أن تضيف شيئاً كونها عاجزة عن اكتشاف ما هو جديد وملفت وذو أهمية. هذا الاكتشاف هو ما يسوغ الكتابةَ عن المقدس. 
 
لطالما اخترقَ المقدّسُ أكثرَ الأشياءِ حميميّةً فينا، ولا يمكنُنا أنْ نتحرّرَ من المقدّساتِ في هذا العالم، هذا الحضورُ الطاغي للمقدّسِ في حياتِنا يفرضُ له بالتأكيدِ حضوراً موازياً في الأدب. 
ولكنّه في الوضعِ الأوّلِ يمتلكُ صورتين، أو يتجلّى على شكلِ قوّتينِ متعارضتينِ، واحدةٍ تمثلُ صورةَ الخيرِ بكلِّ تجليّاتِهِ، والأخرى صورةٌ مروّعةٌ من قوى الشرِّ، والسؤالُ هنا: ما الذي يفعلُهُ الأدبُ بالتحديدِ إزاءَ هاتينِ الصورتين؟
كيفَ يمكنهُ أنْ يعالجُهما وبأيةِ طريقةٍ تنسجمُ مع غاياتِهِ الإنسانيّةِ والجماليّةِ، فيمنعُ مثلاً أنْ يكونَ المقدّسُ خراباً إنسانيّاً إذا ما تسيّدتْ حياتَنا الصورةُ الثانيةُ له؟ 
وهذا رهنٌ بما سيكتشفُهُ الأدبُ فيهما.. ولكن كيف؟
ثمّة أطروحاتٌ عديدةٌ أحاطتْ بمفهومِ المقدسِ، سأتبنى ما يمكنُهُ مجاوزةَ مواجهةِ المقدسِ بحسبِ منابعهِ المعروفةِ واشتغالاتِهِ المكرّرة، إذ أن هنالك بعضَ الأطروحاتِ التي يمكنُ عدّها أداةً ناجعةً لاستدعاءِ الوعي الجمعي في معرفةِ كيفيةِ التعاملِ مع المقدس، وأخرى لا تلبّي ذلك. 
الأولى: تتمثلُ في ما طرحَهُ (كانت) في كتابهِ (الدين في حدودِ مجردِ العقل) انطلاقاً من سؤالِهِ الإشكاليّ: كيفَ نجمعُ بينَ حاجةِ البشرِ إلى تقديسِ شيءٍ ما، وبينَ إحساسِهِم الأصلي بالحريّة؟
هنا يذهبُ بعضُهم إلى حصرِ غايةِ هذا التساؤلِ في احترامِ المقدسِ بوصفه ضرباً من الحرية! وهذه النظرةُ قد تتوافقُ تماماً مع النظرةِ الغربيةِ الحديثةِ، ممّا تنضح به قيمُ ما بعدَ الحداثةِ في جانبِها الأخلاقي، القائمة على احترامِ مقدساتِ وعقائدِ الناس، وأنّ القيمَ الروحيةَ هي جزءٌ من حياتِهِم، وهذه القيمُ وأطرُها باتت جزءاً من الفضاءِ الاجتماعي العام، على الرغم من أنّ هذا الفهمَ قد يناقضُ بعضَ الشيءِ مقولةَ: العقلُ الحرُّ هو الذي يستطيعُ اكتشافَ ماهيّةِ المقدّس. 
ولربما يخفتُ صوتُ هذا التناقضِ إذا ما استوقفتْنا نظرةُ (كانت) إلى غايةِ العبادةِ وتحديدِها بأن تكونَ ضرباً من الاحترامِ الحرِّ لقداسةٍ نابعةٍ من حاجةٍ خلقيّةٍ في طبيعةِ البشرِ وليس من خوفٍ من المجهول*. 
وفي ذلك تصريحٌ للعقلِ بأنْ يتمتّعَ بكاملِ حرّيتِهِ في مناقشتِهِ المقدّسِ لغايةٍ أخلاقيةٍ، شريطةَ أنْ يبتعدَ عن تجليّاتِ المقدّسِ ضمنَ سياقِهِ التاريخي المقرونِ بالخوفِ والخشيةِ، ويقتربُ منهُ في علاقةٍ روحيّةٍ مبنيةٍ على احترامٍ نفعيٍ في فهمِ المقدس. 
الثانية: تتلخّصُ في ما طرحَهُ فيورباخ ومشروعُه الفلسفي القائمُ على تحريرِ الدينِ من سلطةِ التأويلاتِ الراسخة، متّخذاً من الإنسانِ كائناً محايثاً بالعودةِ إلى أصلهِ الطبيعي. 
وبحسبِ هذا الفهمِ يكونُ الانتحارُ الكمالي للإنسان من صنعِ الإنسانِ نفسِهِ، عازفاً عن قراءةِ المقدسِ بحرية، مهمشاً بإرادتِهِ اختيارهِ الطبيعي بأن يستوعبَ الدينَ حينما يكونُ إنسانياً، وهو بذلك يكون مساهماً في غلقِ الأبوابِ بوجِهِ الدينِ، وتأهيل الذات الإنسانية إلى الهجرة إلى اللا إنسانية لصناعة تاريخ جديد تقوده فكرة المقدس أيضا. 
الدين الذي يصالح الإنسان مع ذاته. لذا فإنّ المطلوب في الحديثِ عن فكرةِ المقدس ليس أن نقومَ بتنويرٍ معرفيٍ عن طبيعةِ هيمنةِ المقدسِ لإيصالِ فكرةِ اختراقهِ الحياة، وإنما علينا توضيحُ فاعليةِ الإنسانِ في إنتاجِ فكرةِ المقدس. 
الثالثة: تأخذُ منحىً مغايراً لفهمِ فكرةِ المقدسِ، انطلقتْ من اجتهادِ رودولف أوتو في تفسيرِ (المقدس) الذي حدّدَهُ بما اسْماهُ (النومينو) والذي يعني لديهِ (القوةَ الإلهيَّة). وهذا النومينو الذي لا يمكنُ أن تتلمّسَهُ العقلانيّةُ يستوضحُ أثرَهُ في الذاتِ الإنسانيّةِ من خلالِ ثلاثةِ عواملَ بحسبِ أوتو هي الغيبي والمهيبُ والساحر. هذه العواملُ يعتبرُها البنيةَ الأساسيةَ لتكوينِ النفسِ البشرية. 
وكما يرى أنّ المقدسَ كائنٌ خفيٌّ على الدوامِ لذا لا يمكنُ لأيةِ لغةٍ أنْ تصفَهُ. وهو يخالفُ الكثيرينَ في ما يخصُّ منبعَ المقدس، إذ يرى أنه ينبعُ من الحبِّ لا من الخوفِ والخشيةِ ومردُّ ذلك رؤيتُهُ أنّ التصوفَ هو الذي يجمعُ بين الأديانِ بوصفه قوةً مباشرةً تتعاملُ مع المقدّس، ووفقاً لهذا الطرحِ فلا يسعُنا إلا أنّ نُعمِلَ خيالَنا في فهمِ المقدس. 
إنَّ فكرةَ المقدسِ دائماً تناقشُها العلومُ، علمُ الإنسانِ وعلمُ الفلسفةِ والاجتماعِ وعلمُ النفسِ، وغايةُ مناقشتِها الإنسانُ بامتيازٍ وفقاً للأطروحاتِ السابقةِ وغيرِها، هذه الغايةُ تقابلُ غايةَ الفنِّ وخصوصاً المسرح، بوصفه المصدرَ الأولَ للفنونِ، ولكنّ طريقةَ الوصولِ إلى هذهِ الغايةِ تكادُ تكونُ معكوسةً. لأنّ الواعزَ الجماليّ لا يمكنُ أنْ يخلقَ معرفةً اتجاهَ فكرةٍ تتوقفُ معرفتُها على التجربةِ الإنسانيةِ إذا ما اتفقنا على أن أية تجربةٍ إنسانيةٍ لا بدّ أن تنبعَ من الخبرةِ والتجربة. 
فضلا عن أنّ استقبالَ الجمالِ والتفاعلَ معُه لا يحتاجُ إلى معرفةٍ كبيرةٍ بقدرِ ما يحتاجُ إلى فطرةٍ سليمة. 
لذلك يُطرحُ السؤالُ التالي:  
الغايةُ الأولى تصبو إلى فهمِ فكرةِ المقدسِ من خلالِ الإنسانِ والتجربةِ الإنسانيةِ، والغايةُ الثانيةُ تصبو إلى معرفةِ تجربةِ حياةِ العالم، فكيفَ يمكنُ للمسرحِ أن يناقشَ فكرةَ المقدسِ لمعرفةِ التجربةِ الإنسانية!!  
سأحاولُ هنا مقاربةَ نصّ للكاتبِ المسرحيّ علي الزيدي، توفّر على ملامسةٍ لا تخلو من الجرأةِ للمقدس. لنرى هل حققَ النصُّ اكتشافاً ما وعلى وفقَ ما قدّمنا له سابقاً أم لا؟ ومع ماذا تنسجمُ مقاربتُه الأدبيةُ والإنسانيةُ لفكرةِ المقدس؟
في نص «يا رب» تجاوزُ المقدس قد يعني لنا شيئاً من خلالِ شخصيةٍ متدينةٍ وعارفةٍ بالمقدسِ وليس العكس، فالشخصيةُ التي تُطرحُ على أنّها لا تفهمُ طبيعةَ المكان القدسي وتجاوزتهُ لا يشكّل معرفةً جديدةً، فهي مرتهنةٌ سلفاً بمسوّغ الجهلِ وعدمِ الإيمانِ الأنموذجي بالمقدس، ولا يكفي الحوارُ لخلقِ صورة أخرى، وبحسبَ أطروحةِ (كانت) التي تبتغي احترامَ المقدس لغايةٍ أخلاقيةٍ تتطلبُ أنْ يكونَ الحوارُ مباشرةً بين الأم والذاتِ الإلهيّةِ في النص، وما أكثرَ هذا الحوار لدى أمهاتِنا، ولكنّ التأكيدَ على أن منبعَ المقدس الخوفُ والخشيةُ هو الذي ذهب بالكاتب أن يخلقَ مندوبا عن الذات الإلهيةِ على الرغم من إصرارِ الأم على تقديمِ الطلباتِ إلى الله بشكلٍ مباشر. 
فكرةُ النص غايتُها الإنسانُ وهذه حقيقةٌ جليةٌ، ولكنها لم تطرق بابَ المقدس لتفتحَ لنا أبواباً جديدة تناقشُ فكرةَ انقيادِ البشر إلى تقديسِ شيءٍ ما، بل كل ما فعلته هو أنها أثبتت صفةَ القدسيةَ للمكان (وادي طوى). من جانبٍ آخرَ وبحسب فيورباخ فإنّ المفوّضَ هنا هو إنسانٌ، وعليه يتجلى الانتحارُ الكمالي من كون الإنسانِ عاملاً حقيقيا بعدم التخلصِ من سلطةِ التأويلاتِ السائدة.. الخ.. وبالطبعِ كان عسيراً على النص أن ينطلقَ من غاية فهمِ المقدس وتقديمِ معرفةً رصينةً عنه، وكانت الفرصةُ سانحةً للوذ بالاختيار الثالث لمعرفةِ المقدس بحسب أطروحةِ رودولف، كان من الممكن تخيّلُ ما يمكن تخيلَهُ لمقاربةِ هذا المفهوم، لكن ولأنّ المسرحَ هو انعكاسٌ للواقع دأبَ الكاتبُ على معاينةِ ما يجدُّ من خلال تفاصيلِ الواقع بحذافيره.. لذا يمكن القولُ إنّ تناولَ فكرةِ المقدس لم تأتِ لتجاوزِ المقدس بل هي خطوةٌ جريئةٌ ومشاكسةٌ في تبيانِ طريقةِ استحواذِ فكرةِ المقدس على الإنسان. 
بعيداً عن رصدِ تفاصيلِ الواقعِ التي يبدعُ فيها علي الزيدي أيما إبداع، وهي وسمَةُ الإيجاب الحقيقي التي ألصقت بالمشغلِ المسرحي منذ قرون، أظنّ قد حان الوقت لأن نتعامل مع فكرةِ المقدس بشكلٍ مختلفٍ لخطورتِها، إذ لا يمكنُ التنازلُ للوعي الجمعي اتجاه فكرةِ التقديس، بل نحن بحاجةٍ إلى فهمٍ مغايرٍ للمقدس كي نكتشف شيئاً جديداً خارج المتداولِ والمألوف.