المثقفون يُطلّون على ما ضاع وتحقق من أحلامهم

ثقافة 2022/07/02
...

 استطلاع: 
صلاح حسن السيلاوي 
 الأحلام زاد المثقف لتحقيق منجزاته، أسُّ كل ما حققه الإنسان، ولهذا فهي ذخيرة الذات الإنسانيَّة لصناعة مستقبل مهم وجميل، والعناية بها ضرورة للحفاظ على جدة وفعاليَّة ورقي الحياة. انطلاقاً من كل هذا أتساءل: ما تعريفك الخاص للحلم؟ ما رأيك بما حققه العراقيون من أحلامهم؟، ماذا عن أحلامك؟ وما الذي حققته منها؟، هل العراق بيئة صالحة للحلم؟، أين المسؤول العراقي عن أحلام المثقفين؟، وكيف ترى مقدار رعاية المؤسسات الثقافيَّة ونخبها لأحلامهم؟. 
 
 
صلة رحم ماسة بالأحلام
الناقد الدكتور رحمن غركان، عدَّ الأحلام مرجعيَّة للأعمال، فلا عَملَ يتحقق من دون ثراء حلم ما، لأنَّ الحلم ينطوي على كثير من معاني الأمل، كما يضمر شيئاً من معاني التفاؤل، وهو يقود الذاكرة بكثير من معطيات العمل والإصرار عليه، والمستقبل واستشرافه والوصول الإبداعي إليه، على حد تعبيره.  
ويضيف غركان: في الأحلام طاقة تنقلك إلى ما هو غير ساكن، إلى المتعدد من الأشياء والأهداف.
لأنَّ الأحلام ليست من معطيات النوم، إنّما هي من متبنيات اليقظة؛ هي راهن تفاعلي ينشد مستقبلاً أفضل.
 البيئة الصالحة للحلم يصنعها الإنسان، حيث البيئات الصعبة مثل (العراق) هي ما تستدعي الأحلام، لأنَّ الترف يتوافر على أحلام اليقظة التي لا تبتكر شيئاً لأنَّ الآخرين كانوا قد ابتكروها، فأنت في المحيط السهل الميسور أسير ترف مصنوع وأحلام تمّ إنجازها؛ فلا بد من قيد لتحلم بالحرية، ولا بد من معاناة لتحلم بالإنجاز. 
الحلم مادة الاختراع، والمعاناة هي حاجة الوصول إليه، ومسرى الإبداع بين يديه، وعبر مراياه. 
وقال أيضا: الأحلام بعض الوصول، أما الأماني فبعض الأهداف، وبين الأهداف والوصول إليها، خرائط جغرافيا الأسى كلها!! وعلى المستوى الشخصي حققت من أحلامي ما كانت المعاناة زاد وصول كريم إليها. 
وغاب منها ما كانت المعاناة نفسها بعض شهدائه الصالحين. 
وإذا سارت المؤسسات الثقافيَّة على أنظمة صحيحة ذات متبنيات سليمة ومضت مع إدارات علميَّة من أهلها فإنّها حينئذ ستكون بعض المحطات التي تحقق أحلاماً إبداعيّة هائلة لمبدعين حالمين، لا حصر لهم، في السواد. 
أما ما تحقق من أحلام العراقيين أو أمنياتهم فقد أوجزها الصديق محمد إبراهيم يعقوب بقوله: بعيدون – يـــا الله - عن أمنياتنــــا، تعبنـــا.. تعبنـــا..  والنهايات تعْبثُ.
وكل الذي نرجوه – يا ربّ- خاننا، وكــــل الـــــذي نخشاه، نخشى ويحدثُ. 
 
بديل مناسب للقحط 
القاص علي حسين عبيد، يرى الحلم كما يعرفه، بعد ستة عقود في رحلة الحياة، بديلاً مناسباً للقحط، للجفاف، لتعويض الحرمان، ولإسكات صوت القلق، لسد النقص الصارخ في أعماق الروح، يرى الحلم كذبة بيضاء، يحتاجها الإنسان لكي يملأ الفراغات التي يعاني منها، يجده نوعا من التخيّل لأشياء، لا يمكن العثور عليها أو بلوغها في الواقع، ولذلك يصنع الإنسان أكاذيبه الخاصة من خلال الأحلام لكي يهدّئ خوفه وقلقه ويروي عطشه، على حد تعبيره. 
أما عن أحلامه الخاصه فقال عبيد: حين أختلي مع نفسي وأسألها بعد هذه الرحلة الطويلة في الحياة، هل تحققّتْ أحلامك؟ فلا تجيب، وأكرر السؤال وتصمت، ثم أعيد السؤال بشيء من الرجاء والتوّسل، فتجيب بأن أحلامي لم يتحقّق منها شيء، هذا هو جوابي عمّا تحقق من أحلامي، وهو جواب أشعر أنه صادق وحقيقي، السؤال عن العراق، هل هو بيئة صالحة للحلم؟ يأخذني إلى الإجابة بأن بلادنا أكثر بقعة في الأرض تحتاج إلى الأحلام، لأن واقعها مجدب وجاف ولا طراوة فيه، أتخيَّل أحيانا أن جميع العراقيين حالمون من الطراز الأول لملء فراغ الروح والقلب والحياة معا.
وعن الكيفيّة التي ينظر بها المسؤولون لأحلام المثقفين قال: المسؤولون الحكوميون لا يحبون المثقفين، وينظرون إليهم كمصدر تهديد لهم، المسؤول الحكومي الرفيع له امتيازاته التي يتنعّم بها، ولا يريد أن يخسرها، وأكثر من ينغّص عليه هذه الامتيازات هم المثقفون الحقيقيون، وليس المثقف الطارئ أو المزيّف، لذلك المثقف الحقيقي غير مرغوب به، ليس في العراق وحده، وإنّما في البلدان العربية كلها وربما في العالم، هناك إهمال متعمّد للثقافة والمثقف وحتى للأدب من المؤسسات الحكومية، مثال بسيط على ذلك حتى الآن لا توجد جائزة أدبيّة مرموقة في العراق.
المثقف لا يكره المسؤول، لكنه يكره السلوك الرسمي الذي يتجاهل القضايا الجادة، ويهتم كثيرا بالقشور والشكليات، لذلك أحد أهم أحلام المثقف العراقي، أن يكون المسؤول نفسه مثقفا، ويحمل من الأنفة والنقاء والضمير ما يجعله رفيع النفس وعالي السلوك والتعامل مع المغريات، أتمنى بعمق أن تلتفت الحكومة العراقية إلى الارتفاع بالأدب والثقافة العراقية، فإن أردنا أن نكون دولة متقدمة، على المسؤولين إيلاء الثقافة والمثقف ما يستحقان. 
 
لا أحلام في هذه المطحنة 
الكاتب كاظم جماسي يرى أن اغتراب الإنسان لحظة وعيه بالوجود، وتوحش الأخير، يمكنهما البطش بحياته، لولا أن الطبيعة، على وفق قانون التكيف، منحته آليّات دفاعية لاشعورية، لعل الحلم أبرزها، إذ يعمل على حد تعبيره كما مضخة، حسب صاحب مدرسة التحليل النفسي، تطرد خارجا ما تخلفه ضغوطات المَعيش من أذى. 
وأضاف جماسي بقوله: إن أعظم الأحلام وأجملها على الاطلاق، ماتحقق لنا نحن العراقيين، وكنا أبعد ما نكون عن تصديق تحققه، زوال حكم صدام الطاغية البغيض، وقد فرحنا كما لم نفرح من قبل أبداً، غير أن فرحنا ذاك لم يلبث قليلا حتى بددته، بل سحقته سحقا، ثلة من طغاة صغار، توشحوا بيافطة الدين وراحوا، حتى الساعة، موغلين بسفك دمانا، فضلاً عن هدر ابسط حقوقنا كبشر..
أنا جد حزين.. حزين إلى حد تعجز عن وصفه كلماتي، لم تتحقق لي، وقد تخطيت الستين، أي عتبة من عتبات أحلامي، كإنسان، على تقشفها وزهدها.. فما الشأن مع حلمي المعادل لوجودي كمشروع كاتب!!.
وقال أيضا: الكتابة، أية كتابة، إن كانت شعراً أم نثراً، والأخير بتوصيفاته جميعها، نثراً أدبيا كان أم تأليفا في شتى حقول المعرفة، أجزم أنها تفترض حدا أدنى من توفر الشرط الإنساني، إن لم يكن ترفاً. 
وفي مطحنة العوز والفاقة وشراسة المرض، وقبلها ضغط الخوف المريع من الموت العابث واللا مبرر، كما هو حالنا اليوم في جوف “المطحنة العراقية”، يغدو الحديث عن أي رعاية أو اهتمام أو التفاتة حتى من قبل المسؤول الثقافي، ومن فوقه المسؤول السياسي بأحلامنا، ضربا من لغو وهراء.. هراء محض لا يثير سوى هزء وسخرية
مرة. 
 
فضاء الكينونة 
يجد الشاعر نصير الشيخ الحلم سبباً رئيساً لشعور الإنسان الدائم بوجوده المعنوي عبر مرافقته له منذ بواكير وعيهِ وإحساسهِ، وللمثقف بالتأكيد - حسب الشيخ - ما يتجسد لديه من هذا الحلم لبناء مدينته الفاضلة ربما، وللشاعر تحديداً فضاؤه الرحب في النظر الى عمق الأشياء وجوداً وبحثاً واستبصاراً.. كل هذا في تأمّل ما حوله واستجلاب قدرات ما خارج هذا الواقع لرسم مشهده الذي يريد، ومن ثم صوغ أسئلة وجودية وتساؤلات ثرة ورسم صوره الشعريّة.
وقال مبيّناً رأيه: يعد الحلم هذا الكون “الهلامي” الغامض الواضح، والذي يجد فيه الشاعر مركز كينونته كذاتٍ متفرّدة أولاً، وكصيرورة مثقفة تشغل حيزها في الوسط الاجتماعي.
لذا ظلت وستظل الأحلام ذخيرة الذات الإنسانية لاستشراف المستقبل والتوغل أبدا في مجاهيل بعيدة، كل هذا يدفعنا للبحث ومن ثم محاولة الوصول إلى المجرات، حلماً ورؤى وكشفاً لغويّاً وتدويناً، ومن ثم يتصيّر خبرة روحيّة أو مساساً بتجربة حياة.
من هنا كان الحلم طاقة متجددة لي في رسم ملامح حدود مخيلتي، ورفيقاً ناعماً يشاركني يقظتي، ويطلق غزلان حروفي في منامي، وظل الحلم طاقة كامنة لشخصي يمنحني على الدوام إرادة صلبة على أن أكون بمواجهة أزمنة القهر والخيبات، وسيبقى الحلم لديَّ ليس “يوتوبيا” متخيلة تقودني على الدوام الى أريكة العجز..!! 
بل هو نشوة متسامية تفتح لي بارقة ملوّنة لتجدد الحياة وعوالم الكتابة تحديدا.
وعن حلمه الشخصي قال: حلمي الشخصي هو أن يطبع أحد أعمالي الشعريّة من قبل دار نشر عالميَّة كاعتراف بمنجزي، ومن ثم اطلاع العالم على تجربتي في الشعر والكتابة.
والحلم كون شاسع وبحسب مدارك الإنسان وخاصة الشاعر والمفكر، لذا أرى أنّه من دون جغرافيا أو حدود أو بيئة تجعل منه قاعدة ما. 
حلم العراقيين يبدو أنّه ممهور بالدم والخيبات والهزائم، ما دام الحكام وسلاطين العصر والطغاة بزيهم المحدث يتناسلون على هذه الأرض، لذا علينا أن نردد دائما ما جاء في ملحمة كلكامش (إنَّ الحياة التي تبغي.. لن تجدها). 
 
البيت الذي هدمه اللصوص 
يشير القاص علي السباعي في رأيه إلى أنه يعد الحلم بيته، وأن العراقيين كان لهم حلمٌ جميلٌ يهدف لبناء الإنسان.
لكن الحلم اغتيل، تضافرت جهود اللصوص على اغتياله، على حد تعبير السباعي لافتا إلى أن حلم العراقيين، اغتيلت معه أحلامهم بالحرية والحب والتطور والازدهار الاقتصادي.  وأضاف قائلاً: الحلم كان بيتي قبل 2003، بيتي الذي ألجأ إليه من فرط تعب الحياة، كنت حالماً، والحالم عاشق في طريقة حلمه، وحلمه طريقة عشقه لحياته.
 إبّان تسعينيات القرن الماضي، تمسكت بأحلامي التي تفتح لي بوابات واسعة من الأمل، الأمل الذي منحني الحرية، كنت شخصاً حالماً، أحلم برؤى يقظة تعيد إلي توازني في خضم بحر حياتنا متلاطم الأمواج، تمسكت بنصيحة إدغار آلان بو: “أولئك الذين يحلمون مستيقظين يعرفون آلاف الأشياء التي تفلت من الذين يحلمون فقط وهم نائمون”.
كنت أميل إلى العيش في حالة حلم دائم مع الشعور بأن الحياة هي نوع من حلم شاسع، بعد 2003، رحت أحلم أحلاماً من نوع خاص بعد أن تخليت عن كل أحلامي التي عشتها وعايشتها وأعيشها يقظاً، تخليت عنها حتى أصبحت أحلم بحياة أستطيع أن استمر فيها بالعزلة والكتابة والقراءة، عزلة معرفيّة أحلم أن لا تتلوث بفساد محيطنا الفاسد، كانت أحلامي في الماضي صغيرة، أضحت اليوم كبيرة، أحلم أن أتمكن من كتابة قصة قصيرة مؤثرة، وأن أقرأ، وأحلم بأن أحتفظ بهذه الأحلام الكبيرة، وأهجر الأحلام الصغيرة التي تغير العالم وحياة الناس، كل تلك الأحلام الصغيرة أوهام، والأشياء الحقيقية هي تلك التي فيها روح الحلم من قراءة كتاب، وكتابة قصة، إنّها أحلام شاعريّة عميقة، هذه هي أحلامي، لا أحلم بالثروة ولا بتغيير العالم ولا تأسيس حزب سياسي ولا أن أتسنم رئاسة الوزراء، ألغيت طموحاتي الاجتماعيّة والسياسيّة باكراً، أريد فقط أن أحتفظ بهذه الأشياء الجميلة الباقية لي. 
اهتديت إلى نفسي بعد أن وضعت لي حلماً، علماً أن لا حلم يشبه علي السباعي، علي السباعي الحالم المتأني، وضعت حلمي، وحلمي علمني العطاء، ذلك ما تحقق من أحلامي. 
سدنة العراق الفاسدون الذين تناوبوا على حكمه قتلونا ونحن نحلم وقوفاً في شوارع مدن طفولتنا البائسة، صحروا مدن أحلامنا، وأجهضوا حياتنا، وسودوا وجودنا القاتم فيها. 
الحالمون فقط يمكنهم بناء الحياة، والحالمون فقط يمكنهم رؤية الحالمين مثلهم، والحالمون ينظرون إلى الحياة من دون أوهام الأيديولوجيات والأحزاب الممسكة بالسلطة تجعل على أعين الناس البسطاء غشاوة تعمي أبصارهم، تجعلهم لا يرون غيرهم، فتلغي طموحات الناس باكراً، وذلك ما يطمح إليه المسؤولون الفاسدون بخبث، أن يجعلوا الناس بلا أحلام يصيرها ويصورها لهم المثقفون. 
 
أحلامنا التي يهدمها العسكر 
الشاعر عقيل أبو غريب قال: الحلم هو النافذة التي يطل منها الإنسان على المستقبل، لأنّها تمثل رؤيته الخاصة لما يريده من جديد الحياة، أما أهلنا العراقيون فلم يبنوا حلما إلا وتعاون عليه الساسة والعسكر والطامعون بثرواته ليهدموه، فلم يستطع العراقيون بناء دولة قادرة على الاستمرارية منذ ثورة العشرين حتى الآن، ودليل ذلك ما يعبث في البلاد من حروب تتوالد بشتى السبل. 
من هنا يمكن القول إن العراق صالح للحلم، لأن مستوى حاجاته للإعمار والتطوير في بناه التحتيّة والفوقيّة كبير جداً، ونحن هنا على هذه البقعة التي كانت موطنا لأول أحلام البشر، ما زلنا نحلم بالكثير، لكن عواصف الخرافة والجهل والتطرّف، طالما وقفت بوجه أحلامنا لتدمر، ما يشجر في قلوبنا من أحلام تشابك أغصانها سماوات عالية.
بعض المسؤولين العراقيين أبعد ما يكونون عن الحلم، فهذا البعض يائس وخاسر، وغير قادر على صناعة المستقبل، فلو أنك حللت أي خطاب من خطاباته، لاكتشفت بوضوح حمله لعقلية المعارضة فطالما يطالب بالإصلاح وتعديل القوانين وتصحيح الواقع ورفع الظلم، بينما هو في السلطة، ومقاليد الحكم بيده.. وهذا أمر مضحك وغاية في الغرابة والله، كيف نطالب هؤلاء بأن يحلموا وهم لم يعوا الواقع
بعد.