الشعر والنشر 3

ثقافة 2022/07/04
...

 ياسين طه حافظ
أردت هنا أن أشير إلى مسألة لا تبدو في القائمة ونحن نقرأ أسباب العزوف عن الشعر. هي أن الناشر لا يأمل من نشر كتاب لشاعر جديد غير معروف، عوضاً طيباً حين يحقق هذا من بعد سمعة ويكون شاعراً مهماً. ففي زماننا وخلال سنوات، عقود، لم يمنح أي شاعر مثل هذا الجزاء الأوفى أو الربح المستقبلي، فلا ناشر يأمل اليوم بمثل ذلك. ولا أحد من الناشرين يراهن، في حال كهذه، على المستقبل، أبرز الأسباب وأكثرها ثباتاً، إنه لم يعد زمان شعر وإن اهتمامات كثيرة تشغل الناس وليسوا في زمن كان الشعر المعبِّر الأبسط والأقرب والذي أيضاً لا يكلف ثمناً.. كيف وأكثر ما يصل الناشر غير مقنع ولا يبشر بجدوى، إن لم يكن مؤسفاً؟. 
في حال النشر، قد تدمر السلسلة وتربك مبيعها ثلاثة أو أربعة كتب رديئة! كيف وقد صار معروفاً أن أغلب ما ينشر من شعر لا يغري قراءً فهو لا يُباع؟
من ناحية ثانية إذا كان الناشر لا ينشر إلّا بمستوى الشعراء الفحول أو الكبار أو المشهورين، معنى هذا لا ينشر شعراً. أيضا وهو اعتقاد شخصي، لو أن محرّر الشعر لدى أي ناشر رأى في الكتاب الشعري موهبة نادرة، لاِهتمَّ به، بل وألحَّ على سرعة إنجازه أو نشره. لكن الأشهر تمضي والسنوات وليس ما يقنع ناشراً حدّ اتقاد الحماسة لنشر ما وصله والربح من نشره. ثمة خيبة. خيبة هي السائدة بعد كم كبير من الشعر. نعم قد ينزلق مختلف، متميز ولا يُنتبَه لهُ. لكن هذا نادر وعلينا الاعتراف. لا كتاب شعري يضمن للناشر أرباحاً للمستقبل. هذا أكيد. فاذا أضفنا أن الشعر عموماً غير موضع اهتمام، نكون بإزاء عمل عبثي واسع لا بدّ من التقليل منه أو من اتساعه بهذه الصفة لنقلل الخسارة علينا وعلى الناشر. وما دام ليس كل الشعر يقرأ، فليس إذا كل الشعر ينشر. نعلم جميعاً أنَّ بعض الدواوين القديمة من شعرنا الحديث أكثر جدةً وغنى من كتب لا يبدو فيها ما هو مهم، إلّا ألوان ولمعان الأغلفة. علينا الحديث في المسألة من جميع أوجهها. 
والسؤال الآن: وماذا نفعل لنجعل القرّاء يتذوقون ويفهمون أو يحتاجون إلى نتاجات الحداثة أو النتاجات المعاصرة؟ هنا القضية تبتعد عن دار النشر لتكون ضمن إشكالات التقدم الاجتماعي ومذاقات وأفكار الحضارة الحديثة.
محرّر الشعر في الصفحة الثقافيَّة غير محرّر الشعر في دار النشر. في الصفحة الثقافيّة يهتمُّ بالقصيدة التي تعجبه، التي توافق فضليات ثقافته الفنيّة والأدبيّة العامة لينعش صحيفتهُ. هذا إذا كان متخصصاً بالأدب الحديث. أما بالأدب القديم فصعب أن يجد الشعر الحديث عنده رضا أو قبولاً. نادراً ما يحصل غير هذا. محرّر الشعر في دار النشر لا ينظر لأي مدرسة أو لأي اتجاه هذا الكتاب الشعري، ما يعنيه هل هو شعر يوافق المرحلة الثقافيّة للقرّاء اليوم وهل يرضي القرّاء المتخصصين؟ كم نسبة من يرضيهم من جميع القرّاء؟ 
هنا أيضاً تدخّل رقم المَبيع؛ لأنَّه رقم نجاح العمل!
هكذا وكما اتضح صارت الجِدّة وحداثة العمل وقدرته على الإثارة، أسباب اختلاف عن المعتاد وأسباب إرضاء لدار النشر. ما يزال الأمل بأن يكون مؤثراً ومثيراً. المحرّر حديث الثقافة لا يرتضي المجموعة من دون منهج أو رؤيا. هو يفضّل موضوعاً يضم القصائد ورؤيا فرديّة متميّزة. انتهى النظم، مناسباته وأسبابه ومضامينه. لنا، نحن العرب، وفي العالم، شعراء من النمط الحديث المتفوق وهم الشعراء المعروفون بامتيازهم.
وللمناسبة أذكر إعادة الصياغة التي قام بها أزرا باوند لقصيدة إليوت “أرضٌ يباب” Waste Land. لقد كان عمله في القصيدة عملاً تحريرياً. نشر الشعر يتطلب محرّراً ناقداً متخصصاً ومتابعاً للفن الشعري الحديث. لا يتوافر هذا دائماً. ولكن حكماً سليماً على العمل يجعل مثل هذا المحرّر المتخصّص مطلوباً. مطلوباً ومهما لأنه بتلك الإحاطة وذلك الفهم وتلك الذائقة، يستطيع أن يلتقط الموهبة الجديدة والمزايا التعبيريَّة والفنيَّة الجديدة.
صحيحٌ هذا قليلٌ ونادرٌ والمواهب ليست بالقدر الذي تجري عنه الأحاديث والادعاءات، ولكن لمعةً تسطع بين حين وآخر وخسارتها ليست هينة، لا على تطور الفن ولا على مجمل ثقافة الشعوب. ولا ننسَ هنا أن كلما تطور الشاعر، زادت مقدراته النقديّة ووعيه الفني. وهذا يعني أنّه يسهم أولاً بتقدير امتيازه أو إضافته. 
لإليوت خبرة طويلة في نشر الشعر، إذ عمل في دار النشر فيبر اند فيبر طويلاً. لم يكتب مقالة عن نشر الشعر ولكنه قال: 
“بالنسبة للشعر، خطأ الناشرين ومتاعبهم تتأتى من أنهم يثنون الشعراء عن التعجل في النشر والإكثار منه. هذا لا يرضيهم لكن هذا في صالح الكتاب الشعري ليأتي أنضج وأفضل من سابقه”. 
لعلّه هنا يشير لما ذكره أودن من أنه قدم كتابه الشعري الأول “الخطباء” إلى فيبر وظل إليوت لا يعيد المخطوط إلى أودن ولا ينشره، حتى وجد الوقت المناسب والجو الذي يضرب فيه ضربته الموفقة والمثيرة، فنشره! 
أيضاً الشعر لا تنجزه الجوائز ولا كثرة النشر ولا الإسراف في الصور واللقاءات. ينجزه العمل الراسخ والمجيد، العمل الصامت الدؤوب، والجوع الثقافي الذي لا يهدأ. مطلوب من محرّر المجلة، أو دار النشر عدم اعتماد رؤيا أو فهم واحد لما يجب أن ينشَر. حين كان إليوت مسؤولاً لم تتقيّد فيبر بنشر شعر “إليوتي” فهو إليوت نفسه لم يعتمد ذلك في اختياراته لما تنشره الدار. كان يريد “جديداً”. وهو نفسه يوصي بأن يكون ناشرو الشعر “محافظين” ولكن بحماسة للشعر الجديد الجيد، حماسة من الشاعر وحماسة من المؤسسات التي تنشر الشعر. كان لا يريد في المجموعة صفحة لا تُقرَأ! 
أعتقد بأن أي شاعر يضع هذا الشعار أمام عينيه، “لا تكون في المجموعة صفحة لا تقرأ..”، سوف يكون عمله متقناً ومجموعته الشعريَّة خلواً مما لا ضرورة لنشره.