الواقعيَّة السحريَّة

ثقافة 2022/07/04
...

 عدوية الهلالي * 
إذا كانت الواقعيّة السحرية قد انطلقت من مؤلفات كتاب كبار من اميركا الجنوبيّة، فهذا لا يعني أنها بقيت حكراً عليهم بل استمر هذا النوع من الأدب وازدهر في جميع القارات.. هنا، سنقوم بجولة في بلدان مختلفة نختار فيها مجموعة من المؤلفين الذين خاضوا مغامرة الواقعيّة السحرية وأبدعوا في تقديمها، ففي اليابان، هنالك الكاتب هاروكي موراكامي المولود في عام 1949 الذي ينبغي على قارئ كتبه أن يرضى بعدم فهم كل مايدور فيها وأن يتقبل مايقدمه له الكاتب وألا يشكك في حقيقة وجود حيوانات ناطقة أو أسماك تسقط من السماء ففي أعماله يختلط الحلم بالواقع ويؤثر فيه..
فهذا الكاتب الذي حاز جائزة نوبل ووصفه النقاد بأنه كاتب مابعد الحداثة ويتمتع بخيال خصب، يُعد مصدر فخر لليابانيين بينما يعتبر ايضا كاتبا اميركيا فهو يستنكر في أعماله ضمنيا تحديث بلده اليابان ويهتم بأزمة الهوية التي يعاني منها المواطنون والأمة ذاتها.. بالنسبة له، تصبح الواقعيّة السحريّة ستراتيجيّة سرديّة تسمح له باستكشاف مجالات معينة، بما في ذلك إخفاقات التحديث والاقصاء الضار للروحانيَّة على حساب التقدم.
وفي (كافكا على الشاطئ)، وهي واحدة من أكثر رواياته قراءة في العالم، يبذل كافكا قصارى جهده للهروب من نبوءة أوديب. ومع ذلك، فإنَّ عالم الأحلام سيؤثر بالواقع، لأنّه سيستسلم بالرغم من نفسه لما يحاول الهروب منه خلال أحلامه. وفضلا عن (كافكا على الشاطئ)، يمكن التعمّق في القصة الشبيهة بالحلم لمثلث الحب في رواية (عشاق سبوتنك)، وسنجد في قصة أخرى شخصية تسبر غور قاع بئر لتحلم فيه وتجد إجابات. «الحقيقة ليست موجودة بالضرورة في الواقع، وقد لا يكون الواقع هو الحقيقة الوحيدة..».
وفي ألمانيا نلتقي الكاتب غونتر جراس (1927 - 2015) الذي نشر في عام 1959 رواية (الطبل) ليضع بها أسس الواقعيّة السحريّة، فبدلا من الواقعيّة الاجتماعيّة والساخرة التي تتخللها الروايات الرائعة، كان هذا العمل مبتكرا بلا شك في ذلك الوقت وتناقض تماما مع النتاجات الادبيّة الالمانيّة في تلك الفترة التي كان الأدب الألماني يكافح فيها للتعافي من آثار الحرب والدمار اللغوي والأخلاقي.
وفي عام 1961، وعندما تُرجمت إلى الفرنسيّة، كتبت جريدة اللوموند أنّها كانت «كتلة من خمسمئة صفحة كبيرة، غريبة، فاحشة، غامضة في المعنى، لكنها تمتلك سحرًا على الأقل وإيقاعًا، ولهجة متفردة يمكن من خلالها التعرّف على عمل غونترغراس». 
في رواية (الطبل)، نكتشف المذكرات الخيالية للشاب أوسكار ماتزراث. وماهو خارق للطبيعة هو أن أوسكار، المولود في غاية الذكاء والمدرك لما ينتظره، قرر في أوج سنواته الثلاثة التوقف عن النمو رافضًا المصير الاجتماعي الذي ينتظره. فضلا عن ذلك، يتمتع أوسكار بموهبة العزف على الطبل، والذي يمكنه من خلالها التحكم في الناس وإثارة ذكرياتهم. ويمكنه أيضًا كسر الزجاج عندما يوجه صوته نحو الشيء المراد تحطيمه. وبأسلوب كرنفالي في بعض الأحيان، يسلط اوسكار الضوء على مآسي التاريخ العظيمة - لا سيما الحرب المستعرة في دانزيج - والتي وقعت مابين عامي 1924 و 1950.
من يقرأ أعمال جراس سيجد مراجع متعددة، ومتاهات أحيانًا ولغة تفسح المجال لتعابير جديدة، مع تغيير الضمائر والعديد من الاستعارات، لكنه سيكتشف عملا ملتزما وفريدا من نوعه.
أما في كولومبيا، فلا بد أن نفكر في غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) عندما نتحدث عن الواقعيّة السحريّة، لذلك من المدهش أن نعلم أنه بالنسبة له، لم يكن ينتقص من الواقع بأي حال من الأحوال عندما كتب، على سبيل المثال، مئة عام من العزلة، هذه الرواية المنشورة عام 1967 والتي تمتد لستة أجيال، والتي يتحرك جدولها الزمني وفقًا للشخصيات، حيث يحمل العديد من الأبطال الاسم نفسه وتدور أحداثها في قرية معزولة ستعاني من تحولها نحو الحداثة. وفي مقابلة أجريت معه، اقتبس مدرس الأدب ريتشارد بويفين مقولة الكاتب الكولومبي: «أردت ببساطة أن أترك شهادة شعريَّة لعالم طفولتي التي عشتها في منزل حزين كبير، مع شقيقتي التي تأكل التراب، والجدة التي كانت تتكهن بالمستقبل والعديد من الأقارب الذين غالبًا ما كان لديهم الاسم الأول نفسه والذين لم يميزوا أبدًا بشكل واضح بين السعادة والجنون». وهكذا نرى شخصيات غارسيا ماركيز تستمع إلى الأشباح أو النبوءات التي يطلقها الغجر.
وبعد ترجمتها إلى خمسة وثلاثين لغة وبيع أكثر من ثلاثين مليون نسخة منها، سيتم تكييف رواية (مئة عام من العزلة) بواسطة Netflix، التي تمكنت في عام 2019 من الحصول على حقوق تجسيدها سينمائيا. وقد قدم سيد الواقعيّة السحريّة عدة أعمال خالدة منها (خريف البطريرك)، (وقائع موت معلن) وغيرها.
وفي المملكة المتحدة، تميزت الكاتبة انجيلا كارتر (1940- 1992) في هذا الصنف الأدبي، والتي قال عنها أحد الروائيين لدى وفاتها “مع وفاة أنجيلا كارتر، فقد الأدب الإنجليزي أعظم ساحرة، ملكة الساحرات المحببة، المزيج الساخر من العبقريّة والإرث القديم”.
يمكن أن نجد في أعمال هذه الكاتبة البريطانية ملامح عدة كتاب بينهم لويس كارول وادغار الن بو وساد وتشارلز بيرولت وويليام بوروز وايان سينكلير، وما يوحد بينهم هو أنهم يتساءلون عن الخط الدقيق بين الخيالي والواقعي، وحدود الطبيعة البشرية، من زاوية الغرابة. ولكن هناك أيضًا شيئا نسويّا بشكل أساسي، حتى ما بعد الحداثة، في أعمال أنجيلا كارتر، ما يؤكد جودة عملها، أنها تميل نحو الواقعيّة السحريّة والإيروتيكيّة الباروكيّة في رواية (آلات الرغبة الجهنميَّة للدكتور هوفمان) اذ يقوم العالم هوفمان بإثارة الارتباك في مدينة من خلال خلق الأوهام فيها. 
وفي رواية (متجر الألعاب السحريَّة) يصبح مراهق يبلغ من العمر 15 عامًا يتيمًا وسيُجبر مع شقيقته على الانتقال للعيش مع عمه في جو غريب وقمعي– وعمه هو كائن مستبد “منحوت أو محفور من الرعد” - يدير متجرًا مظلمًا وقذرًا من الألعاب والدمى المزعجة. 
وهنالك الكاتبة التشيليّة المولد ايزابيل الليندي (1942) التي باعت أكثر من 60 مليون كتاب، تُرجمت إلى 35 لغة. ونشرت الليندي في عام 1982، روايتها الأولى (بيت الأرواح) -وهي من أشهر أعمالها - وتروي حياة أسرة امتدت لأربعة أجيال عبر الزمن والتغيير الاجتماعي. تم نفي أليندي، التي تعيش الآن في الولايات المتحدة، من تشيلي بعد انقلاب عسكري، وكانت كتابة هذه الرواية بطريقة تمكنها من التخلص من آلام الديكتاتورية وإعادة الاتصال بالمفقودين. بدأ الأمر برسالة مكتوبة إلى جدها المريض الذي أرادت التواصل معه للمرة الأخيرة قبل وفاته لتؤكد له أنها لن تنساه أو تنسى القصص التي يرويها لها. وتغازل الرواية الواقعيّة السحريّة، وذلك بفضل شخصية كلارا التي تتمتع بسلطات خاصة اذ يمكنها التحدث إلى الأرواح، ورؤية الأشباح، وتحريك الأشياء والتنبؤ بالمستقبل وتقول عنها الكاتبة “إنّها شخصيَّة سحريَّة، مثل جدّتي. كانت كلارا مستبصرة وعاشت مرتبطة بعالم الأرواح”.
أما في الولايات المتحدة فقد أصبحت توني موريسون (1931 - 2019) شخصية مهمة في الأدب الأميركي، بعد حصولها على جائزة نوبل للآداب عام 1993. وفي عام 1987، نشرت روايتها (محبوبة) وهي واحدة من أشهر رواياتها، والتي نالت عنها جائزة بوليتسر وتم تحويلها الى فيلم في عام 1998، وهذه الرواية، التي كانت بداياتها مستوحاة من قصة حقيقيَّة ومأساويَّة حدثت في عام 1856، تصور سيثي، وهي عبدة سابقة، تقتل طفلتها حتى لا تعاني ابنتها بدورها من العبوديَّة. وفي وقت لاحق، سيأتي شبح هذه الطفلة المفقودة - في العمر الذي كانت ستكون عليه الشابة في ذلك الوقت لو لم تمت - ليطارد والدتها، مما يزيد من شعورها بالذنب. 
وتساعد هذه الشخصية “المعاد إحياؤها” في جعل الواقع الرهيب أكثر احتمالًا لتجاوز آلام العبوديَّة. وقد قال احد النقاد عن موريسون “إنّها لا تقدم الواقعيّة السحريّة بقدر ما تروي كيف يرى الأميركيون السود الحياة”. كانت الأشباح والسحر حقيقيين بالنسبة لها عندما كانت طفلة. وكانت “الواقعيّة السحريّة” وسيلة للانغماس في الثقافة الأميركية السوداء ومشاركتها مع القرّاء. لذا استخدمت عمليات السرد التي تجعل من الممكن دمج غياب الاختلاف بين الأحياء والأموات.
ولا يعد العديد من النقاد الارجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899- 1986) مؤلفًا واقعيًا سحريًا بحتًا، بل هو سلف مؤسسي هذا النوع. ابتعد الكاتب الأرجنتيني عن الكتابة العقلانيّة، والتعطش للحرية، والهروب والمطلق. وربما كان العمى التدريجي الذي عانى منه منذ أن كان في الثلاثين من عمره هو الذي دفعه إلى مخاطبة غير المرئي. ففي عام 1955 أصيب بالعمى التام. 
وعلى الرغم من انه لم يتعلم طريقة برايل أبدًا، فإنه لم يتوقف عن الكتابة. وفي العام نفسه، تم تعيينه مديرًا للمكتبة الوطنية في بوينس آيرس، مما جعله يقول هذه الكلمات: “مئتا ألف مجلد في متناول يدي... من دون أن أكون قادرًا على قراءتها”. وقال عنه الكاتب البرتو مانجويل “هناك كتاب يحاولون وضع العالم في كتاب. وهناك آخرون، أكثر ندرة، يعد العالم بالنسبة لهم كتابًا، كتابًا يحاولون قراءته لأنفسهم وللآخرين. 
وكان بورخيس واحدًا منهم”. أعاد بورخيس ابتكار الإمكانيات اللا نهائيّة للخيال، ولا سيما في رواياته (كتاب الرمل) و(تخيلات) و(الألف) وتنسب اليه أيضا الأسطورة الأدبيّة “مكتبة بابل”.
وفي أعمال الكاتبة الفرنسية كارول مارتينيز (1966) أساطير وحقائق سحريَّة مستوحاة من الحكايات القديمة، فلا تتردد كارول مارتينيز في جعل الموتى يتكلّمون. وتقول الكاتبة في مقابلة معها - تمامًا كما قالت إحدى شخصياتها في رواية (الزهور السحريَّة)- إن جدتها ساحرة، وأنها عالجت الآخرين من خلال الصلوات التي تعلّمتها خلال الأسبوع، كما أن مارتينيز تسهب في الحديث عن الرمزيّة، ولا سيما من خلال القول بأن شخصياتها تتجاوز عتبة الحياة إلى الموت، والموت إلى الحياة. وفي أعمالها، تعطي كارول مارتينيز صوتًا للنساء وتقدم لهن مفاتيح تحمل مسؤولية مصيرهن. تقول “لقد خنقتم السحر والروحانيّة والتأمليّة في ضجيج مدنكم، وقليلون هم أولئك الذين يجدون الوقت للاستماع، ولا يزالون يسمعون همهمة العصور القديمة أو صوت الريح في الأغصان”. 
ومن الكتاب المعروفين بغوصهم في عالم الواقعيّة السحريّة أيضا سوني لابو تانسي (1947 - 1995) من الكونغو الذي أحدثت أعماله ثورة في الأدب الافريقي لأصالتها وقوتها وتم إنشاء جائزة أدبيَّة باسمه في عام 2003 ويشكل الدم والجنس والثورة ركائز الإطار السردي لرواياته ذات النكهة الأسطوريَّة حيث يظهر السحر في أغرب مظاهره. 
والكاتب جوليو كورتازار (1914 - 1984) من الأرجنتين  وهو سيد الواقعيّة السحريّة بلا منازع، فهو يحب أن يضع نفسه على هامش الواقعي والغامض، وبالنسبة له، يبدو أن الاثنين يسيران جنبًا إلى جنب. سواء في قصصه أو رواياته، فإنّ الواقع الذي يصوره يتكون دائمًا من عدة طبقات، مرئية أو غير مرئية، تتداخل وتشكل عالمه. والكاتب خوان رولفو (1917 - 1986) من المكسيك الذي يلعب بطريقة غريبة مع الحد الفاصل بين الحياة والموت، لأنه اخترع كتاباته الخاصة، وأسلوبه الخاص وطريقته الخاصة في قول الأشياء، ولأنّه يستخدم تعقيدًا سرديًا مذهلاً فهنالك عوالم خيالية، حدود ضبابية، وتوقيتات متداخلة، وموتى يتحدثون إلى الأحياء. هكذا استخدم رولفو بعض المكونات الخاصة بالواقعيّة السحريّة.