لعبة العناصر وتداخل المستويات في مجموعة (حلويات) لعمر السراي

ثقافة 2022/07/05
...

 علي لفتة سعيد
يثير العنوان الذي اختاره الشاعر عمر السراي لمجموعته الشعرية الجديدة الكثير من الدهشة، ليس لمعنى المفردة الوحيدة التي وردت على الغلاف، بل لاختياره المخالف لكل التوقعات التي يمنحها العنوان، ليكون على وفق نظرية الشعر الحداثوي وما تفعله عمليات التجديد والتجريب والميتات المتناسلة. (حلويات) قد يكون العنوان الأغرب في الذائقة الشعرية.
 
والعنوان الأكثر تقبّلا أيضا ليس لكونه عنوان شاعرٍ معروف في الساحة الثقافيّة، بل لأنّه جاء محمولًا على عدّة دلالات، يمكن أن يصنع معها هدفيَّة التلقّي. أولها: إنّه جاء لجذب المتلقّي لكي يبحث عن ماهيَّة هذا العنوان. ثانيها: إنّه يصنع البديل الحزين في العنوانات الأخرى، سواء من جاء بالعنوان الطويل أو الذي اختزل بكلمة أو كلمتين.. ثالثها: إنّه لعبة إنتاج من أتقن غائية الشعر والشاعرية أيضا.. ورابعها: إنّه يأتي دالًّا لما يأتي من عناوين النصوص التي حملتها المجموعة التي لا أدري إن كان حجمها الصغير متفّق عليه مع الشاعر أم أنها جاءت كذلك ورغم أن لا (نيَّة) في الشعر والإصدار، فإنَّ ما أريد بهذا الحجم الصغير أن يكون شكل الكتاب ضمن (حلويات) المعنى والدلالة، هو أمرٌ يتبعه أيضا ضمن اللعبة التدوينيَّة للمجموعة أن النصوص قصيرة وعديدة، كأنّه طبق حلويات متنوّع الدلالات (الأنواع) سواء بالعنوان أو الشكل النصّي.. فأغلبها جاءت بعناوين من كلمةٍ واحدةٍ، وثلاثة نصوص منها جاءت بأربع كلمات، وتوزّعت عناوين النصوص الأخرى بين كلمتين وثلاثة على ما تبقى من القليل، وهو أمر لا يمكن الإفراغ من تأويله على أنه طبق حلويات شعري.إنَّ البنية الكتابيّة في هذه المجموعة وما ترتّب على اللعبة فيها، أنَّ النصَّ فيها تراوح أيضا بين صفحة وصفحتين وثلاث صفحات، في حين جاء نصّ عن تشرين بسبع عشرة صفحة.. ونص بأربع صفحات حمل عنوان (علي) ونصّ (دور) بسبع صفحات، ولهذا فإنَّ التشكيلة النهائيَّة لطبق الحلويات كان متنوّعًا ولم يشأ أن يضعه في قالبٍ واحدٍ ليؤكّد أن الأفكار متعددة.
إنَّ اللعبة الكتابيَّة واحدة من أهم علامات البنية الكتابيَّة العامة كونها تعني أن صاحبها/ المنتج/ قد غادر منطقة الموهبة الى منطقة الاشتغال الحرفي، ليصنع أشياءه، ليس وفق اسقاطات الهمّ العام للنص المنتج، بل لاسقطات داخلية وخارجية يتمتّع بها المبدع الذي تحوّل وفق اللعبة، من كاتبٍ الى منتج نصّ، لأنّه امتلك الأدوات الفنية.. وعمر السراي يعرف كيف يلعب بما يمتلكه من أدوات البنى التحتية للنصّ وما يمتلكه من أدوات داخلة في إنتاجه.إنَّ هذه النصوص لا تقاد من منطقةٍ واحدةٍ في عملية التدوين والإرسال للهدفيَّة والقصد، فهي تتبع الفكرة التي يتبناها النصّ الواحد. فهي تارةً على شكل حوارٍ سردي، وأخرى على شكل نصّ انزياحي، وآخر على شكل طرح رؤية لما هي المناظرة ما بين الواقع والافتراض الشعري، ولهذا فإن (حلويات) هي طبق شعري، لم يغادر الشاعرية التي تمكن عملية اللعبة فيها، وهي المتشابه الأعلى في القاسم المشترك الذي يربط النصوص مع بعضها، كأنّها الذوق الأكثر حرصا من المنتج لتكون حاملةً لدهشتها صناعتها/ لعبتها:
(وكيف حالك..؟
- منصوبٍ كما قال النحاة الأوائل
أو منصوبٌ على ثلاث أثافي من وجعٍ وشوق وانتظار) ص42. 
في المفردة الشعريَّة يكمن المعنى وفي طريقة التدوين تكمن اللعبة، وفي رسم الشكل الظاهري تكمن العلاقات العامة للنص.. حيث تأخذ المفردة طريقها في بنائيَّة المعنى والتأويل، وهذه لعبةٌ أخرى من قدرة الشاعر الذي يريد ايصال (كمياته) الدلاليَّة عبر نصّ مرتبط بالمستويات الكتابيَّة بدءًا من العنوان حتى آخر كلمة. ولهذا فإنَّ النصوص في المجموعة لا تلعب لعبة المستوى الواحد ليعقبه مستوى آخر، بل في الجملة الواحدة أو (السطر) الشعري أو المقطع يكمن أكثر من مستوى:
 (تلج النار شفتي فأبثها لك بارتخاء أغنية) 
(وستائرنا المرتخية على اتجاه العالم السفلي شمسا
 مخدرةً بحليب الغزلان البريَّة) ص86
(وعن الجميلات اللائي ينتظرن حبيبهنّ
تحت ظل شجرةٍ وسط زحمة -الهورنات- الزاحفة) ص125.
(الأصابع التي تمشّط الشعر ناعماً
وهو يُزيّن شجرة ميلاد السنة
في زاوية بيتنا الدافئة لي) ص149.
إنَّ هذه الجمل الشعريَّة تحتوي على مستويات ثلاثة ظاهرة.. المستوى التصويري والإخباري والتحليلي، لتنتج لنا هذه المستويات مستويين آخرين، هما القصدي والتأويلي. لتسير المستويات معا (القصير والمتوسط والطويل) الى ما يريد بثّه من أفكار ترتبط بالمستوى الفلسفي للنص الواحد.. والنتيجة فإنَّ لعبة المستويات لا تبتعد عن غائيتها.. غائية المنتج/ الشاعر الذي يطعّم شكل المفردة بما هو يومي أو مشاع، ويقرّب الصورة الى المتلقّي عبر تضاد المعلومة القارّة مع الجملة القصديَّة المرتبطة بها، أي ما هو مفهوم من (يوميّات) للمتلقّي بما هو مضاد من قصديّات الشاعر، وهنا تكن اللعبة الفنية التي تدير البنية التدوينيّة للنصّ الواحد.. حتى أن بعض النصوص وإن استعان بلوحة فنيّةٍ أو تخطيطٍ فني، فإنّها لا تقرّب المعنى، بل لتكون معادلًا موضوعيّا للنص، أكثر منه غاية موضوعيّة لاستكمال ما هو غير موجود في النصّ، بمعنى أنَّ اللوحات جاءت لغاية تفعيل عنصر المراقبة للنص.
إنَّ اللعبة الشعرية في هذه المجموعة فيما لو خرجنا من دهشة العنونة وترتيب العناصر الثلاثة لكل نصّ (الشكل، الجملة، المضمون)، فإنّنا نجد أنَّ فكرة النصّ هي التي تحدّد ما هي هذه العناصر، مثلما تحدّد القدرة على المناورة فيما بينها.. ومن ثم إنتاج نصّ يتبع الشاعريّة المتوخّاة والتي تزيد من عناصر التقبّل التي تأتي عبر هدوء المفردة، ولا أقول بساطتها، كونها عميقة، بل هادئة في مناقشتها ووضعها للعناصر الثلاثة داخل النص الواحد:
(يا رب
لذلك عامله برفقٍ وحنان
كما تعامل جورية قطرة الندى
فهو ابنك
قبل أن تسمح لي بأن أكون أبا عاقا
في تنهّدات رحمتك الواسعة) ص166.
إنَّ النهايات في النصوص هي نهائيات اللحظة التي تمسك بالمستوى الفلسفي والتحليلي معا، كونه يروم إعطاء المفردة قدرة على  ممارسة دورها لتتحول من مفهومها النثري الحكائي الى مستواها
الشعري.