العراق وأساطيره السياسيَّة

آراء 2022/07/06
...

 ا.د.عامر حسن فياض 
 
غلبت الخصائص الأسطورية والعملية التطبيقية على تشكيل العقل العراقي القديم، الامر الذي انعكس بجلاء على الفكر السياسي. وكان الفرنسي جان بير فرنار (1914 - 2007م)، قد اشار في  كتابه (اصول الفكر اليوناني) إلى الطبيعة السياسية لأسطورة الخلق البابلية وأساطير التكوين الإغريقية، التي اعتبرها أساطير تتعلق أفكارها اساسا بالسلطة الحاكمة ومصدرها وأصلها، ما يجعل منها وبشكل أساس اساطير سياسيَّة، ذهب الباحث والمترجم الانكليزي (فرانسيس ماكدونالد كورنفورد(1874 - 1943م) إلى الرأي ذاته في ما يتعلق بأساطير التكوين الاغريقية. ووفقا للأساطير الرافدينية والنيلية القديمة، فأن الأصل والمصدر الإلهي للسلطة السياسية في العراق القديم، يختلف عن الأصل والمصدر الإلهي للسلطة السياسية في مصر القديمة، حيث يتميز الأصل الإلهي للسلطة السياسية في بلاد الرافدين القديمة بطابع المركب الإلهي- البشري في آن واحد، بما يجعل منها سلطة إلهية في السماء وبشرية على الارض. فقد افترض العقل العراقي القديم وجود حكومة سماوية إلهية تدير أمور الكون والحياة، عبر مجلس يضم الالهة ويرأسه الإله الاكبر، ويختار هذا المجلس واحداً من البشر ليكون حاكما على الأرض، فالسلطة إذن ذات اصل ومصدر إلهي مقدس، لكن الحاكم بشري بروحه وجسده وليس إلها كما افترض العقل المصري القديم، والانسان، حتى من كان حاكما، لا يمكن أن يكون إلها ، ولا أن يشارك الآلهة في أهم صفاتهم (الخلود)، مهما حاول أو فعل، لأنه يبقى في النهاية كائنا بشريا فانيا. وقد افترض العقل العراقي القديم في أساطيره أمرين: 
الأمر الأول: إن الانسان مخلوق فانٍ، وان الخلود خاصية لا تحوزها إلا الآلهة.
الأمر الثاني: ان عقاب الانسان وثوابه امران دنيويان لا وجود لهما في عالم الأموات.
فضاعفت هذه الافتراضات من أهمية التشريع القانوني في الحياة الاجتماعية ، واكدت دوره في استقرارها النفسي والمادي. وتتجلى هذه الفكرة بصورة أوضح في الملحمة السومرية(كلكامش)، أشهر الملاحم العراقيَّة القديمة، والاكثر اهمية بين مرجعيات الفكر السياسي القديم في بلاد الرافدين. حيث تحكي هذه الملحمة قصة (كلكامش)الملك الخامس لأوروك، الذي ثلثاه إله خالد وثلثه بشري فان، الملك الذي يرحل عن بلاده باحثا عن الخلود بعد موت صديقه الحميم (انكيدو) وتقابله في رحلته صاحبة حانة الآلهة، التي تحاول تخليصه من وهم طلب الخلود، وتنصحه قائلة: (إلى اين تمضي يا كلكامش؟ ان الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فعندما خلقت الآلهة البشر، قسمت لهم الموت، واستأثرت في أيديها بالحياة. اما أنت يا كلكامش فأملأ بطنك، ومتع نفسك، واجعل أيامك أعيادا، وارقص والعب ليل نهار، نظف ثيابك، واغسل رأسك، واستحم بالماء، احن على الصغير الذي يمسك بيدك، ودع الزوجة تفرح في أحضانك، فهذا هو حظ البشر على الارض).
لكن كلكامش يرفض هذه النصيحة المعبرة عن الروح الحسية العملية الغالبة على حضارات بلاد الرافدين، ويستمر في بحثه، الذي يوصله إلى نبتة شوكية عجيبة تمنح الشباب لمن يأكلها ولكنه يفقد هذه النبتة حين تسرقها منه الأفعى، فيقدر لها أن تجدد شبابها وتغير جلدها على الدوام، ليعود كلكامش وقد اكتشف أنه كان ثلثي اله وثلث انسان، فأن انسانيته الزمنية المتناهية، غالبة على إلهيته الخالدة اللامتناهية، وأن الخلود أمر يخص الالهة وحدها، اما البشر، او من بهم شيء من خصائص البشر، فبشريتهم تغلب ماسواها.