بعضها نبيلة وأخرى من أدوات التعذيب .. مسامير وألواح

ثقافة 2022/07/06
...

 عبّود الجابري   
  كان تقويم المسامير المعوجّة أقسى مهنة مارستها في طفولتي، مسامير صدئة، مستلة من قلوب الألواح القاسية، لمْ تكن أشكالها توحي بأنها ستعود صالحة للاستعمال، لولا سطوة المطرقة القاسية، وكان أسوأ ما في المهنة، هو أن المطرقة يطيبُ لها أحياناً أن تخطئ المسمار، فتصيب إحدى أصابعك، كانت مهنة مليئة بالكدمات، تلك الكدمات التي تجعلك تضع إصبعك في فمك لا شعوريا، ولمْ أكن أحمل للمسامير سوى كراهية شديدة، حتى قرأت مقطعاً للراحل (حسن مطلك)، في روايته المعروفة (دابادا)، يتحدث فيه عن أوجاع المسمار «ألمُ الطرقِ من جهة، وصعوبة الاختراقِ من جهة أخرى»، عندها شعرت بألفة معها، ووجدت فيها شبهاً عجيباً مع الانسان المضطهد، المغلوب على أمره، الانسان المسمار، والعالم المطارق.
يرتبط خلقُ المسامير، بحاجةِ النجّار إلى رفيقه الحدّاد، لأنّهُ ضاق ذرعاً بالمسامير الخشبيَّةِ سريعة العطب، وربَّما لتخفيف العبءِ عن كاهلِ الأشجار، فما أنْ اكتشف الانسان وسيلةً لتسخين الحديد - الأمرُ الّذي يجعلُه طيّعاً- حتّى اهتدى إلى صناعة المسامير، حيثُ تشيرُ الأدلّة إلى أنّ تصنيعَ المسامير قد بدأ قبل ألفي عام، في عهدِ الرومان، حين كان الحدّادون يزوّدون البنّائين بحاجتِهم من المسامير، عند الشروع ببناء الحصون والقلاع، ويدلُّ على ذلك وجود سبعة أطنان من المسامير في قلعة أنثونيل، في برثشاير، كما عُثِر على مسامير برونزيّةٍ في مصر، يعودُ تاريخ استعمالها إلى العام 3400  قبل
الميلاد.  
 
ألواح طينية
كما أنَّ الذاكرة الدينيَّة تشير بصورة واضحة، إلى سفينة النبيّ نوح، التي بناها من ألواحٍ ومسامير، ليبحرَ فيها الصالحون من بني قومه، «وَحَمَلْنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَٰحٍ وَدُسُرٍ (القمر - 13)»، كما ورد في القرآن، ولم تكنْ هناك إشاراتٌ واضحةٌ تَصِفُ أشكال الدُّسُر، ولا طبيعة المادّة التي تمَّ اشتقاقُها منها، غيرَ أنّها مسامير، (دُسُرٌ)، كانتْ لها فضيلةُ تثبيتِ ألواح سفينةٍ أبحرتْ بحمولتها في طوفانٍ عارم. ثمَّة إحالة لفظيَّةٌ إلى مفردة المسمار نجدُها في أول خطوط التدوين، اللّغة المسماريّة، التي استمدَّت اسمها من طريقة الكتابةِ على الحجر، أو على ألواحٍ طينيَّةٍ بواسطة مسمار، واعتُمدت لغةً مكتوبةً في الحضارة الأكديّة، كونها المحاولةَ الأولى في ممارسة الكتابة على الأسطح التي كانت متاحة قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أيْ قبل ظهورِ الأبجديَّة بنحو 1500 عام، وعلى الرغمَ من ذلك لم يكنْ هناك من ينصف المسامير التي كانت تحفر بأسنانِها تلكَ الألواح، لتُشكِّل ماهيَّة تلكَ اللغة.غير أنَّ المسامير النبيلة، المغلوب على أمرها هنا، ماثلةٌ في المرويّات في صور أخرى، غير تلك التي تُنعش مخيّلة كل واحدٍ منّا، وقد تبدو حكاية مسمار جحا أكثرها طرافة، وهي حكاية تحكي قصّة رجلين باع أحدهم بيته للآخر واشترط في العقد أن يبقى بيع البيت ماعدا مسمار ويكون له الحقّ في أن يأتي للمسمار كلما أحبّ، كي يطمئن على المسمار، وأصبح الناس يتخذونه مثلاً يضرب عند استخدام الحجج الواهية للوصول إلى الهدف المطلوب.
 
هل لنا أن نُبَرِّئَ المسامير؟
يميل التراث الشفاهي العربي، إلى إظهار المسامير بصورة الكائن المظلوم حيناً، والصلب في حين آخر، ويأتي ذلك عبر أمثالٍ شعبيَّة مازالت متداولة حتى يومنا هذا، فيرد في الأحاديث لتبرير الفعل القسري الذي يصدر عن شخصٍ ما مانصّه «قالَ الخشب للمسمارِ، لقد كسرتَني، فأجابَ المسمار، لو أنّك رأيتَ الضربَ الذي وقع على رأسي، لعذرتني».
بينما يرِدُ المسمارُ في روايةٍ واحدة، كرمزٍ للقوة، عند الحديث عن قسوةِ البرد، وكيف أنّه شديد لدرجة يقطع فيها المسمار.
في الحكمة يأتي المسمار في سياق المثل، لكنه ليس فاعلاً، غير أنَّ حضوره يعزّز المعنى، فحينَ يتحدَّث الناسُ عن ضرورة التريّث في أمرٍ ما، فإنّهم يقولون،»ضربةٌ على الحافرِ، وضربةٌ على المسمار»، ويعنون بذلك المسمار الذي يستعملُ لتثبيت حدوة الحصان.
بينما تعاودُ الحكمة الشائعة تصوير المسامير، على أنَّها كائنات ضعيفة، لتشبيه الإنسان المتجبّر، وعلاقته بالآخرين، «اذا لم تكن تملك سوى مطرقة فإنَّك ستتعامل مع كل شيء على أنه مسمار».
 
مساميرُ القتلة
ولعلّ أشهرَها مسماران، اخترقا كفيّ المسيح، من أجل تثبيتِه على الصليب، في واقعة الصلب المعروفة، وقد ورد ذكرُ هذين المسمارين في أغلب الايقونات المسيحيَّة، تلكَ التي صوَّرت المسيح مصلوباً، ويبدو أنَّ المسامير كانت من أقسى أدوات التعذيب، وأكثرها بشاعةً، وقد وردت قصص تعذيبٍ عديدة كانت من بطولة المسامير. 
في إسبانيا في القرن الخامس عشر، إبّان محاكم التفتيش، كان المسمار بطلاً من أبطال أدوات التعذيب، فكان المتَّهم ليدلي باعترافٍ ما، يُساقُ إلى غرفِ التعذيب القاسية، التي يلقى فيها صنوف العذاب، وعندما لا يعترف أو لا يوجد عنده ما يعترف به، فإنّه لا بدَّ أن يمرَّ على المسمار المسنون والمحميّ في النار، لتُفقأَ به عيناه. كما كانَ كرسيّ المسامير في القرون الوسطى وحتّى نهاية القرن الثامن عشر يثير الفزع لمجرّد ذكر اسمه، في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. حيث كان عبارةً عن كرسيّ من خشب زُرعتْ في مقعده ومسنده مسامير حادَّة، ومزوَّد بأحزمة تضييقِ المكان عند جلوس الضحية. وكانوا أحياناً يقومون بتسخين هذه المسامير، ما يجعل القيام منه عذاباً والجلوس عليه موتاً!
ربما كان ماركوس ليسينيوس (53- 112 ق.م) القائد الروماني هو أكثرُ من استعمل المسامير، ويقال من باب الطرافة المؤلمة إنَّه هو من أنعش صناعة المسامير، حيث استخدم أكثر من عشرين ألف مسمار من الحجم الكبير وهو في طريقه من روما إلى كابو، وذلك لصلبِ ستَّة آلاف عبد، زهواً بانتصاراته.
من الواضح أن «طريقة المسمار» كانت تقنية قتل شائعة، فقد كان من الصعب توقع وجود مسمار في رأس شخص ما، قبل اكتشاف الأشعة السينيّة، وقد يخفي شعر الضحية الجرح، لذا فإنَّ الناس، الذين لا يرون أي علامة واضحة للإصابة، يفترضون غالبًا أن الوفاة حدثت لأسباب طبيعيّة.
طريقة القتل بالمسمار هي تقنيةٌ قديمة ورد ذكرُها في الكتابِ المقدَّس، سفر القضاة 4:21:
«ثم أخذت ياعيل، زوجة هيبر، مسمارًا من الخيمة، وأخذت مطرقة في يدها، وذهبت إليه بهدوء، وضربت المسمار في صدغه، وربطته بالأرض، لأنه كان نائمًا ومتعبًا، فمات».
بينما يأتي أدب الجريمة الصيني، ليقتبس من قضايا القتل بالمسمار أشهر مروياته، مستعيناً بكتاب المحاكمات القديمة تانج ين بي شن T›ang-yin pi-shih، وحنكة القاضي الذكي ين تسن Yen Tsun، الذي رأى في مقتل رجلٍ على يد زوجته بالمسمار، أنَّه على الرغم من وجود أسبابٍ قويَّة للاشتباه في الزوجة، إلّا أنَّ جسد الزوج لا يُظهرُ أي علامات عنف، ويروي كتابُ المحاكمات أنَّ ين تسن عثر على الدليل، من خلال ملاحظته تجمُّعاً لسربٍ من الذباب في مكانٍ واحد في جمجمةِ الرجل الميت، حيثُ كان شعره يُخفي الجرح الذي تسبَّب به المسمار.  وقد مارست الأممُ جميعها بدءاً من الآشوريين، مروراً بالفرس، وليسَ انتهاء بالشيوعيين الذين كانوا يعارضون لينين، حيث قاموا بحسب رواية الكاتب مكسيم غوركي، بتثبيت اليد اليسرى لكل معارض على خشبةٍ مرتفعة، أو على خشبِ سكّةِ القطار، قبل أن يقوموا بالتمثيل بهم، ويبقى في ذاكرةِ المسامير دائماً، مالم يحدِّث عنه الرواة، وماهو مسكوتٌ عنه قسراً، خشيةَ أنْ يمضي هؤلاء الرواة إلى (عدالة) المسامير.