المسرح العراقي والجمهور

ثقافة 2022/07/06
...

 د. بشار عليوي
 
لقد اتسمت علاقة الجمهور بالمسرح العراقي داخل العراق بالتذبذب، ومُرَدْ ذلكَ الى مُجمل المُتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي لم تعرف الاستقرار بفعل الحروب وما طرأ على المُجتمع العراقي بعد التغيير الذي حصلَ في 9/4/2003 وعلى المُستويات كافة التي أثرتْ بشكل مُباشر على الإنتاج المسرحي ونوعيتهِ وتوقيتات تقديمهِ التي لم تكن مألوفة سابقاً في المسرح العراقي حينما قُدّمت العديد من العروض المسرحية داخل بغداد في وقت الظهيرة خلال فترة الاحتقان والاقتتال الطائفي للفترة من 2005 الى 2009 التي لم يكن يُشاهدها إلّا مُنتجوها وأصدقاؤهم لا بل أن عددا آخر من العروض تمّ إنتاجها ليتم عرضها في المهرجانات المسرحية العربية والدولية كمهرجان دمشق والقاهرة وقرطاج والأردن حتى قبلَ أن يُشاهدها الجمهور العراقي على عكس المُدن العراقية الأخرى التي تمتّعت بنوع من الاستقرار الأمني كبابل والبصرة والناصرية والسُليمانية والديوانية.. وغيرها فكانَ تقديم العروض المسرحية بالشكل المُتعارف عليهِ مساءً في هذهِ المُدن، حيث لاقت إقبالاً جماهيرياً واسعاً بفعل نشوء نهضة مسرحية واضحة المعالم في تلك المُدن بفعل مساحة الحُرية الممنوحة للأيديولوجيات التي تضمنتها تلكَ العروض مُقارنة بالتضييق والرقابة الحكومية قبل 2003، فضلاً عن تنوع مصادر التمويل التي حصلَ عليها المسرحيون العراقيون في مُختلف المُدن العراقية، وهذا كُلهُ أثرَ بشكل واضح في محاولة تخليق علاقة جديدة بين المسرح العراقي وجمهورهِ، على الرغم من  التحديات الأمنية الخطيرة التي لو واجهت أي مُشتغل في الحقل المسرحي في أي بُقعة في العالم لإنكفأ على نفسهِ وغادر هذهِ المنطقة، لكن المسرحيين العراقيين واجهوا تلك الظروف الصعبة التي تمثلت في أوضح صورها بجرائم الإرهاب الأسود بمُختلف أنواعهِ وصورهِ، بعزيمة وقوة عبرَ سلسلة العروض والمهرجانات المسرحية التي أٌقيمت في العراق، وهذا ما أعطى زخماً إضافياً لتوفير أرضية خصبة لجذب الجمهور العراقي الذي وإن بقيَّ جمهورا نُخبويا، إلّا أنّهُ تواصل بالحضور ومُتابعة المهرجانات المسرحيّة كمهرجان مُنتدى المسرح ومهرجان بغداد الدولي ومهرجان أربيل الدولي ومهرجان دربنديخان الدولي لمسرح الشارع ومهرجان المسرح العراقي ضد الإرهاب.. وغيرها، والعروض المسرحية العراقية التي توصف بـ (المسرح الجاد)، في حين حققت بعض العروض ذات الصبغة الجماهيريّة حضوراً لافتاً واستمرَّ عرضها لأيام مُتواصلة وقُدمت في فترة المساء تحدياً للإرهاب الأسود؛ لذا فإنَّ تواصل الجمهور مع المسرح العراقي مُرتبط أساساً وإجمالاً بالمُتغيرات الاجتماعية والمُتداخلة مع العوامل السياسية والأمنية التي هي نفسها لم تعرف الاستقرار أصلاً، ولعلَّ من بداهة القول إن المسرح كَمُمارسة حياتيّة لا يمُكن استنباتها واستمرار نتاجها إلّا في بيئة مُجتمعيّة مُستقرة على كافة الصُعد وهُنا تكمن مُقاربة الواقع العراقي مع مسرحهِ وتأثير ذلك على تواصل الجمهور مع هذا المسرح، كما يُمكن الإشارة هُنا الى أن عروض المسرح العراقي لم تستطع أن تستقطب جمهوراً من خارج الوسط المسرحي بشكل خاص والثقافي بشكل عام، وبقيت هذه العروض مجانيّة وغير ربحيّة خلاف ما معمول به عالمياً.
لقد استمرت مُعاناة المسرح العراقي في وجود قطيعة واضحة بينهِ وبين الجمهور وعدم تواصل هذا الجمهور مع نتاجاتهِ المُعبرةِ بشكل دقيق عن ماهيتهِ، وهذهِ حقيقة ربما تكون صادمة للكثيرين، ويقف خلف هذهِ القطيعة العديد من الأسباب، منها ما يتعلق بالبُنية الاجتماعية بفعل ضواغط المُتغيرات التي أصابت المُجتمع العراقي وعلى عدة صور وهذا كُلّهُ قادَ الى انصراف هذا الجمهور عن عروض المسرح العراقي وأصبحتْ تلكَ العروض تُقدم ليوم واحد أو يومين فقط، ومن ثمّ أصبحتْ الحاجة مُلحة الآن أن نذهب بالمسرحِ الى الناس حيثما يتواجدون كي نُزيلَ هذهِ القطيعة الراهنة وهوَ ما يُمكن أن توفرهُ عروض مسرح الشارع الذي يُقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة، متخذاً من الناس المتواجدين عشوائيّاً جمهوراً لهُ، ومُستلهماً موضوعاته من الواقع اليومي بهدف إيصال أفكاره عن طريق المُشاركة التفاعليّة مع
العرض.
إنّ العروض المسرحية التي تُقدم في الشوارع والساحات والأماكن العامة تهدف إلى ايصال خطاب معرفي بالاعتماد على تفاعل الجمهور معها من خلال إشراكهِ في اللعبة المسرحية لأنَّ هذه العروض تُقدم في مكان التواجد العشوائي لهذا الجمهور ومن ثمّ تحظى تلك العروض بوجود جمهور متفاعل معها، فمسرح الشارع في العراق الذي أخذَ الاهتمام بهِ واضحاً من لدن المسرحيين العراقيين بوصفهِ يُمثل المسرح البديل، قادر على تحقيق تأثير في الجمهور العراقي الذي ينتمي الى شرائح المجتمع بوصفهِ يُمثل جمهور شارع مُتجمعا عشوائياً إذ إن مجرد الرغبة في تطوير فن يناسب العصر وفي غيبة أي دافع آخر تكفي لأن تدفع بمسرحنا العراقي الى الضواحي والشوارع حيث يفتح ذراعيه للجميع ويصبح في متناول أولئك الذين يعيشون على القليل وينتجون الكثير، فالذهاب الى الجمهور هو ما يُميز عروض مسرح الشارع عن العروض التي تُقدم داخل المسرح المُغلق بوصفهِ يهدف الى التقرب منهُ، من خلال تقديم تلك العروض في المقاهي أو الذهاب الى القُرى وأماكن العمل من أجل إلتحام أكثر بالناس وتفعيل روابط التعايش والتواصل معهم والتعرف على مشكلاتهم.