شاكر نوري محدِّقاً في عيون إلزا

ثقافة 2022/07/06
...

 إسماعيل نوري الربيعي
 
رجل أدمته عيون إلزا. حتى تجرَّأ على مزاحمة أراغون للغور عميقاً في حدقتها. ينوح بطريقة أقرب للهذيان مردّدا، (الطفل الذي تسيطر عليه الصور الجميلة، يحدق بعينيه باتزان غير كثير، وعندما تحدقين بعينيك لا أدري إذا كنت تكذبين، كأنّ المطر الغزير قد فتح أزهاراً بريَّة). حتى صوّب ناظريه بعيدا، حيث الهناك، حاملاً زوادته المتقشفة من مدينته الوادعة تحت غاب كثيف من النخيل الأخاذ الآسر. أرضه المجللة بدم الفرسان، المتورّدة حمرة لورود الربيع على ضفاف نهر ديالى. ترابه الأقدس حيث اعتاد الإله أن يؤدي فروض طقوسه الأزليَّة. إرثه الباهر حمله واثقا نحو مدينة الأنوار. فكان لقاؤه مع ذلك الطفل المنبهر أبدا بالجمال.
مشتبك هذا الشاكر النوري بالمطر الغزير، الذي أثمر زهرا لا ينوشه سوى العاشقين. (حدقة بحدقة)، تلك هي الحال التي آل إليها وهو يخوض حكاية التشكل والتكوين، في بلاد بعيدة، وبعيدة جداً.  بلى هكذا كان شرطه، حيث التكافؤ  في الحضور والتأثير والتماهي والتفاعل. رهان على الجمال ولا شيء سواه. وهكذا توقى الإفك وابتعد عن الباطل واعتزل البغي وتجنب البهتان، وتخلى عن الجهالة، وتنحى عن الزيغ وجانب الزور ونأى عن الضلال وهجر الغيّ. 
رجل لم تروّعه كوسموبوليتانية باريس، ولا سطوة الأسماء الكبيرة الراسخة. فكان الندّ في الاختيار والحوار، حتى فتح آفاق القارئ العربي لسلسلة دافقة من النقاش الآسر والمناظرات الشجيّة، والمكالمات الثريّة، والمطارحات الغنيّة، والمساجلات الواثقة والمحاورات الغنيّة.  
نوري الذي قطع المسافات البعيدة، صار وجها لوجه مع تأملات البَوْن الشاسع، وتمييز البُعْد السحيق، وملاحظة الشُقَّة القصية والمَدى المترامي. تقمّصته أحوال بهاء الولاية ووضّاءة الفاعليَّة وسطوة الملاحة وسلطان البهجة وصولة الروعة وصلاحيّة الرونق وسلطة السحر ورئاسة الرونق وتأثير النضارة. حتى آثر أن يزيح عن كاهليه أحوال الارتماء في أحضان الآخر. فكان (الممرض) بشهادة أحمد المديني. الذي ابتعد بكل ما فيه من وعي، عن الولاءات والانتماءات والإخوانيّات المدبّبة، والذمام المنهوبة، والصداقات المشروخة.
كائن إبداعي لا يحركه سوى العهد والمحبة والود، متوّجا إياها بميثاق الإبداع. شاكر نوري السوربوني المتنور، المثمر المنتج، والصحفي المستكشف والمحاور البارع، الروائي والكاتب والمثقف. ما انفك يراقب جدب العالم وشحّه من (نافذة العنكبوت)، يدلج بجسارة قل نظيرها ليستكشف (نزوة الموتى).  متفرّساً في (ديالاس بين يديه). لا ينتظر نباحا من (كلاب جلجامش). يؤوب إلى بغداده ليتأمل (المنطقة الخضراء). يسوح في دهايز هذا العالم ليسرد حكاية (شامان). يتوقف بصمت مرين لسماع صراخ (مجانين بوكا). 
لا يتوانى نوري من إطباق كلتا يديه على سعير السؤال، حول محنة (جحيم الراهب) المُبتلى بنار النسك وجنهم التنسّك، وهاوية المترهّب ولظى الزاهد. كشف لا تنكّر فيه، وطيلسان لا يعرف التخفي، وكساء واضح الخطوط لا اختفاء فيه. إنّها العباءة التي تستر من دون أن تخدش خطوط الوضوح. ها هو ذا الراوي يعلن عن إدانته لأحوال التداخل والتزاحم والتشابك، مفرط في ذر الأذى وترك الكرب وهجر الضر، ونقض الوجع وتنحي الإفساد ومقت الإزعاج ولفظ الحزن وطرد الأذى. إنه البحث في صميم اليقين الساعي نحو إعادة صبابة المعنى في الاعتكاف والتبتّل والتزهّد والتنسّك والتقوى. إنّها الإحالة إلى تفاصيل هذا العالم الزاخر بالاتهام والتسقيط والنبذ والاقصاء والتهميش، بناءً على الأسبقيَّات المعرِّشة في عقول الكثيرين، (اسم اسحاق الذي لا يرمز إلى أي معنى ديني اختاره لي أهلي بالمصادفة ومن دون أي دلالة). لكنه مأزق الاجتباء والاصطفاء، والانتقاء والتخير، والتصفية والغربلة، تلك التي يبرع بها الإقصائيون، ليجعلوا من هذا العالم فضاء لإعلان البراءة من التهم الجاهزة. عالم عليك أن تواري فيه آدميتك، بعد أن جعلوا منك متهما حتى تثبت براءتك.