عبدالزهرة محمد الهنداوي
تخرّج من كلية الهندسة، بتقدير امتياز، لذلك لم ينتظر طويلا في الجلوس على دكة البطالة، فبعد أيام قلائل، وجد نفسه في إحدى الشركات المرموقة.
تطوّرت مهاراته بسرعة، ومعها ارتفع مرتبه الشهري، حتى وصل إلى (22) ورقة، ألفين ومئتي دولار، ومؤشر الزيادة لم يتوقف، ففي كل شهر يمر، يحصل على مكافأة مالية جيدة، أو قسط من الأرباح، بالاضافة إلى راتبه، بدأت أحلامه تتوسع، فبات يحلم ببيت وزوجة وسيارة فارهة، وربما بتأسيس شركة باسمه، ليصبح رجل أعمال يُشار له بالبنان.
في الجانب الآخر من المشهد، وعندما يعود إلى البيت، تستقبله والدته التي افنت سني عمرها لكي تراه سعيدا، والدته التي لم تكن مقتنعة بالحال الذي هو عليه، فكانت تقول له إن هذا العمل اجهدك كثيرا، حتى تردّت صحتك، واصفرّ وجهك، فأنت تستحق وظيفة حكومية، ولعلها بكلامها هذا كانت تدغدغ رغبة كامنة لديه، فهو عندما كان طالبا في الجامعة، كان يمني نفسه، بأن يصبح موظفا في إحدى الوزارات، وينادونه مهندس فلان، ثم ما يلبث أن يُرقى إلى درجة مدير، وتنثني له وسادة الوظيفة!، ناسيا أن رجال الأعمال يتمتعون بامتيازات لا تشبه تلك التي يتمتع بها الموظفون مهما علت مناصبهم، فهناك رجال أعمال يتناولون إفطارهم في لندن ويتغدون في هونكونك، ويبيتون في لاس فيغاس!
لم يفارقه حلم الوظيفة الحكومية، على الرغم من المركز المرموق الذي وصله في الشركة، فقد بات لديه رصيد مالي في المصرف، وفي عطلة نهاية الاسبوع، يخرج مع أصدقائه، فيسألهم، هل صحيح أن وجهي اصفر وجسمي هزيل بسبب ساعات العمل الطويلة؟!، فيجيبه الاصدقاء، عكس ذلك، فصحته تحسنت، وأصبح أكثر وسامة وجاذبية.
لم يدم حاله طويلا، فبعد ثلاث سنوات ونصف من عمله في تلك الشركة، ظهرَ قبوله موظفا في إحدى الوزارات، اذ سبق له أن قدّم العديد من طلبات التعيين في اكثر من وزارة، ولأنه حاصل على درجة الامتياز في الهندسة، فقد قُبل في هذه الوظيفة.
وفي ذلك اليوم، قدّم طلب استقالته من الشركة، امام ذهول وصدمة أرباب العمل وزملائه.. حاولوا ثنيه عن القرار، إلا أنه رفض بقوة، فخرج من الشركة، حاملا أشياءه في حقيبة علقها على ظهره، وهو يطلق عبارة ظل صداها يتردد في آذان الموجودين: أنه مستقبلي أيها السادة.
وما إن وصل إلى البيت حتى وجد أمه قد اعدّت متكئا واحتفالا، دعت له الأقارب والاصدقاء، لمناسبة تعيين ابنها!، التحق بوظفيته الحكومية، بين عدد كبير من المهندسين، ممن سبقوه في الخدمة، لم يكن ثمة عمل معين يقوم به، فالعدد الموجود، لا يتيح له فرصة الظفر بأي مهمة، فكان يومه مترهلا طويلا مملا، على خلاف الحال الذي كان عليه، عندما كان يعمل في شركة القطاع الخاص، راودته غلالة من الحزن وربما الندم، ولكنه سرعان ما أبعدها عن تفكيره، مخاطبا نفسه، أنه سيحصل على راتب تقاعدي في المستقبل البعيد، وفي هذا ضمان له
ولعائلته.
في نهاية الشهر الاول من عمله الجديد، استلم اول راتب من الوظيفة، وكان مقداره أقل من ربع ماكان يحصل عليه في عمله
السابق!