بين الأسطورة والفلسفة

آراء 2022/07/16
...

 علي المرهج
تكاد تكون الأسطورة نصاً أدبياً، فهي «نصٌ سردي» وضع بأبهى حلة وأقوى صورة مؤثرة في النفوس. وهي أيضاً صياغة فكرية فيها كثيرٌ من البعد التأملي والشعري، فإفلاطون مثلا يستخدم الأسطورة في المسائل الفلسفية الكبرى. فهو يصور المثل تصويراً أسطورياً، سواء في ما يتصل بماهيتها أو بصلتها بعضها ببعض أو بصلتها بالمحسوسات، كما أنه يستخدمها في ما يتصل بالله.
 
والأسطورة تقترب من الشعر إن لم تكن في كثير من الأحيان هي ملحمة، لها أحداثها التي حصلت في دنيا الواقع، ولكن غلبت عليها لغة الرمز وجمال الصورة المُتخيلة في الشعر.
هُناك من فرَق بين الملحمة والأسطورة، “فالملحمة تدور أحداثها حول الآلهة: خلقها، وصراعها، ومُغامراتها، وعلاقتها بالناس. أما الأسطورة فتدور حول الإنسان ومحاولته تعليل الغامض المُبهم، مثل: الولادات، والموت، والنوم والأحلام، والمرض، والجوع، الزلازل، العاصفة، البرق، الرعد، موت الطبيعة في الشتاء وعودتها مع الربيع...إلخ”.
تتداخل الأسطورة عند البعض مع الفولكلور “التراث الشعبي”، الذي يُعنى بدراسة الثقافة الشعبية الموروثة لا سيما الموروث الشفاهي، أي الحكايات والقصص والعادات والسلوكيات التي توارثتها الشعوب عبر مُمارساتها الطقوسية أو موروثاتها الفنية.
يقول عثمان الكعاك في كتابه (مدخل إلى الفولكلور) إن “الفولكلور هو مجموع ما أبدعه الشعب، من أول تاريخه، في ميادين العقيدة والثقافة والفن والمعمار والصناعات. لذلك نجد فيه مظاهر مُختلفة من حضاراته المتعاقبة خلال أطوار تاريخه”، والحكاية الشعبية جزء من الفولكلور، لأنها مجموعة من الأخبار والروايات، تُنقل من جيل إلى آخر عبر السماع لا التدوين والكتابة في الأغلب الأعم، وإن كان هُناك تدوينٌ لها فهو لاحق على الحكاية.
تعتمد الحكاية الشعبية على تواتر الحكي أو القص المُكتنز بمعانٍ تتجاوز ظاهر القول للغوص في مُضمراته، والكشف عن مدلولاتها المروية على لسان الحيوانات أو الطيور، وفيها الكثير من القص بما يرتبط بالواقع المُعاش، ولكن هذا لا يمنع من وجود بعض المفاصل في الحكاية مُفارقة للواقع من جهة العمل على تحقيق المُتمنى الذي هو في دائرة الحُلم والخيال.
أما الخُرافة، كما يؤكد فؤاد زكريا في كتابه (التفكير العلمي)، هي نوع من التفكير يقوم على التنكر لمُعطيات العلم ورفض مناهجه، فبينما تكون الأسطورة تفسيراً (شمولياً) للعالم ولمجموعة من ظواهره، نجد أن الخُرافة تهتم بما هو (جُزئي) بتفسيرها لظاهرة ما أو حادثة واحدة.
الخُرافة سرد لا علاقة له بالواقع، بل هي خلق لعوالم لا واقعية من الجنيات والكائنات الحيوانية والنباتية تتصارع، وتُحب وتكره، بعيدة عن الانشغال بالبعد الديني أو الطقوسي، من المُمكن أن يكتبها فرد أو جماعة، ولا زمن لها فلربما تُكتب الخُرافة وتُعاش في زمن ماض أو حاضر أو قادم، وتكون في الأغلب الأعم الحكاية الخرافية حكاية ليست مُقدسة حتى عند الشعوب التي أنتجتها.
لا يُمكن أن ننفي عن الفكر في بواكيره الأولى “الأسطوري” أن يحمل في طيَاته نزوعًا نحو عقلنة السؤال عن أصل الوجود، ولكنه بقيَ أسير التأملات الوجدانية والخلجات الداخلية البعيدة عن الرؤية البرهانية ونزوعها في الوضوح والتدليل المنطقي الذي يقتضيه القول الفلسفي.
استمد الفلاسفة اليونان الأوائل رؤاهم في تفسير أصل الوجود بالاعتماد على ما جاءت به الأساطير، لا سيما أساطير الشرق القديم ومحاولة فهم هذه الرؤى بالعتماد على العقل الإنساني والملاحظة أو (التجربة الحسية). 
بمعنى أن التفكير الفلسفي تغلب عليه سمة أنه عقلاني، بينما التفكير الأسطوري تغلب عليه سمة أنه عاطفي.
في التفكير الفلسفي هُناك مجهول تستدل عليه بمعلوم، بينما في الفكر الأسطوري الوجود الطبيعي هو تمثل للوجود الإنساني وما الوجود الإنساني سوى تعبير حقيقي عنه، لأن الطبيعة في الفكر الأسطوري حية، وتشترك الروح الإنسانية مع الروح الطبيعية وتندمج.
الفكر الفلسفي فكر يرتكن أصحابه لربط العلة بالمعلول أو السبب بالمُسبب، لذا فإن إمكانية التحقق من مصداقيته مُمكنة لأنه تفكير يتخذ من المنطق أداة له لتمييز صحيح الفكر من فاسده، غايته الوصول للحقيقة.
أما الفكر الأسطوري فلا نجد فيه اهتماما بربط العلة بالمعلول أو السبب بالمُسبب.
يترتب على هذا أن الفكر الفلسفي فكر نقدي، بل وفكر شكي، والشك أداة التفكير الناقد عند الفيلسوف، فهو فكر يبحث صاحبه للوصول لليقين (الحقيقة) عبر اعتماده على المنطق الاستدلالي (الاستنباط) و(الاستقراء).