فلاحو العراق قبل العام 1958

آراء 2022/07/20
...

 حسن عودة الماجدي
 
مع الإطلالة الوطنية لثورة الرّابع عشر من تموز عام 1958، يستذكر الشعب العراقي ذلك الحدث التاريخي للثورة المجيدة بكل فخر واعتزاز، حيث تمَّ من خلالها التجسيد  الأمثل لكل الأمنيات 
على جميع الصّعد  الدّاخلية والخارجية، وفي هذا الصّدد أودّ أن أذكّر الّذي لم يعاصر البواكير الخمسينية بالواقع 
المزري والفقر المدقع على شريحة الفلاحين على وجه الخصوص، من قبل شيوخ الاقطاع وملاك الأرض الكبار، حتى أنّ الشريحة المذكورة قد فقدت مقوماتها الشخصية والمعنوية  والدّور الاجتماعي، إذ إنّ الفلاح يصبح ويمسي تحت 
الرّكلات والجلد المبرّح من حوشية الشّيخ من الوكلاء والسّراكيل والشحنية 
والموامير.
مما حدا بهؤلاء الهجرة العارمة  إلى المدن الكبيرة طلباً للعيش وسد الرّمق، حتى ولو كان الاشتغال بالمهن الحقيرة والمتدنية أرحم لهم  من سياط الاقطاع وجوقة التابعين, الجدير بالذّكر أنّ أحد ضباط القنصلية البريطانية في لواء العمارة عام 1955 قد رصد يومياً أكثر من عشر شاحنات مكشوفة محملة بالعوائل الفلاحية، تهرب ليلاً من اللّواء المذكور خشية (أعين زلم الشيوخ ), امّا موضوع السكن لفلاحي الجّنوب قبل الثورة التّموزية  المجيدة فإنّ الجّميع يسكن في قرى مظلمة وينامون بجنب حيواناتهم ومع كلابهم بأكواخ من القصب والبردي، وتحيط بها القمامة وروث البهائم، وكل هذا شاخصاً امام مرأى ومسمع المحتل الانكليزي، كي ينال استرضاء شيوخ الاقطاع من أجل الحفاظ والهيمنة للتاج البريطاني على المعمورة, وهذا ما يؤكد الذّاكرة الخمسينية قوانين الجور المفصّلة على مقياس شيوخ الاقطاع، سواءً كان قانون دعاوى العشائر المدنية أو الجزائية لسنة 1918 وتأكيد ذلك سنة 1924 وكذلك التّعديلات التي  طرأت لاحقاً، كقانون واجبات الزّراع الرقم 28 لسنة   1933 ما اكتسب الاقطاعي سلطةً أخرى، لكنّها هذه المرّة سياسية لكره الفلاح على حل النّزاعات في المحاكم الرسمية, أمّا من حيث الظلم والجور فإنه شامل ولكن بتباين بين الشمال والجنوب، إذ إنّ الاخير في لواء العمارة اكثر بؤساً وشقاء واضطهادا، حتى أطلق على اللّواء  المذكور بأنه (بورصة الفقر المدقع والجور المزمن) بين الألوية الأخرى، امّا ما قال عنه المستشرق السوفييتي (كوتولوف) آنذاك في موضوع الشمال والموصل على وجه الخصوص، فإنّ فلاحي ذلك اللّواء عبارة عن رقيق أو أقنان  بين شيوخهم نتيجة تدوير الديون المترتبة عليهم،عموماً إنّ ذاكرة البّواكير الخمسينية، تؤكدها الأصوات الحزينة لمطربي الموال المحمداوي الممزوج باللّوعة وسوء الطّالع، الذي يعبر عن صدقية الضيم والقهر كون الكلمات الفطرية، تنبعث عن وتر ريفهم  المظلوم بقيثارة الحياة المتعبة من ظلم المتسلطين على زراعة الشتوي والصيفي، لذلك يدرك الشعب العراقي بأسره إنّ  ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، لم تكن وليدة الصدفة من أجل النياشين  والرتب العسكرية، وانّما نتيجة تراكم هائل من الذّل والعبودية على الصّعيدين الدّاخلي والخارجي، بل إنّها جاءت تتويجاً لجهود مضنية وتضحيات جسيمة قام بها الضّباط الاحرار بقيادة ابن الشعب البار الزّعيم الخالد عبد الكريم قاسم، هذا الذي لو أردنا أن ننصف الرجال العرب في السابق واللاحق في التاريخ المعاصر، لم  نجد من يستحق التبجيل والتقدير غيره في النّزاهة وصفاء الضّمير والتّواضع الجم في القيادة وحب الجماهيرالمسحوقة، فضلاً عن أن 
الرجل لم يكن لاهثاً وراء مغانم السحت الحرام، حتى قالوا عن فترة حكمه القصيرة التّي عطر أجواءها قانون الاصلاح الزراعي الرقم 30 لسنة 1958، والذي يعد جوهرة المنجزات التّموزية، بأنها الواحة الوارفة الظلال، الأرقة الماء،  السندسية البساط،الغنية الزاد الصادحة الأوتار, الصّادقة الأعيان, تلك الواحة القاسمية.