فاعليَّة التجريب في قصص محمود جنداري القصيرة

ثقافة 2022/07/23
...

 د. جاسم خلف الياس
إن من أهم اللحظات التي تمرّ بها التحولات القصصيّة هي لحظة معانقة التجريب، أي لحظة التمرّد والخروج من خانة التقليد، والبحث خارج ثوابت النوع، وتحريك الأساس الجمالي في كيفية اختيار الإطار الفني، في اشتغال يرتبط بطاقة التجريب التي تقدم أنماطا جديدة للعلاقة بين النص والمتلقي، ويعود نجاح هذا الخلق النصي إلى ضرورة عزل وعي التحولات الحياتيّة الجديدة عن عجز الأدوات الفنيّة المتداولة، وربطها باستيعاب الحساسيّة الأكثر توغلا في نقل رؤيته لهذه التحولات.
وحدث أن غادرت الكتابات القصصيّة الحديثة المعايير والقوالب النمطيّة الجاهزة، وأخذت تتدفق بوجدانات غير معهودة، حملت إلى المتلقي الصدمة الأولى التي خلخلت كل توقعاته، وأحدثت اضطرابا في مسافة التقبل التي انتابها التشقق
والتصدع.
وتبعا لهذه التوصيفات فالتجريب يساند الاستمرار في التجاوز والاختلاف، وفي مقاربتنا هذه وجدنا أن التجريب الذي اعتمده محمود جنداري في نتاجه القصصي منذ مجموعة الأولى (أعوام الظمأ) قد تعددت اشتغالاته، وأضافت للمتخيل القصصي تحولات جديدة في التعبير الواقعي ـ وإن كانت متواضعة. والأهم أنّها لم تتكرر أو تستنسخ أو تتوقف في مجموعته الثانية (الحصار) وفاعليّة التعبيري الرمزي التي غادر اشتغالها في مجموعة الثالثة (حالات) بوصفها نوعا قصصيا مغايرا تماما (حلقة القصص) في حين شكلت مجموعته الرابعة (مصاطب الآلهة) انزياحا نوعيا أشد حدة، وتمرّدا إجناسيا، وضع القصة القصيرة في مشروعه الذي لم يكتمل - بسبب وفاته رحمه الله عام 1994- على أعتاب مغامرة
عنيفة.
لقد اعتمد جنداري في كل مجموعة من هذه المجاميع صيغ وتقنيات جمالية تناسب مرحلتها؛ ليعمل على تخليص مشروعه التجريبي من النمطيّة التي تتحول تدريجيا إلى قيود وثوابت جاهزة، وتبعا لهذا الاشتغال في التحول القصصي. 
ومن هذا المنطلق أدرك جنداري أن اعتماد التجريب في الكتابة القصصية يتوقف على فعلين:
 أولا: كسر نمطيّة التعبير القصصي بإعادة خلق فضاء لغوي يتمرّد على القوالب الجاهزة.
ثانيا: خلق بنى عميقة تشد أوصال النص القصصي، وقد شكلت هذه البنى مغامرة القص وعلى القارئ أن يشترك بهذه
المغامرة.
لقد عبرت قصص جنداري عن رؤيا خاصة تجاه الأشياء والعالم، وأخذت مسارا تطوريا طيلة ما يقارب من أربعة عقود، وشهدت محاولاته الأخيرة جرأة – بحسب فاضل ثامر - في (خلخلة منطق السرد وخلق بنية سردية مغايرة يلتحم فيها الواقعي بالميثولوجي والحسي بالتجريدي والمرئي باللامرئي والمنطقي بالغرائبي والمحلمي بالغنائي، وتلتحم فيها الخطابات السردية الحديثة بخطابات ملحية وميثولوجية قديمة) إلّا أن جنداري لم يرتض بهذا الوصف العام لتلك البنية السردية المغايرة على الرغم من أهميته، وذلك لافتقار هذا التوصيف ـ والكلام لجنداري ـ إلى الكثير من القدرة على التأمل والملاحظة لما هو بناء أو تركيب تفصيلي ومترابط خيطا بخيط، وحادثة بحادثة، ومعنى بمعنى. واصفا تلك البنية بأنّها ليست مجرد محاولة لخلخلة السرد القصصي، بل هي قبل ذلك كله محاولة لهدم مرتكزات الكتابة النمطيّة والتشكيك بنواميس القراءة. إنّها محاولة لزعزعة الإيمان المطلق بثبات الأشكال الأدبيّة وتواتر تطورها التقليدي وصولا إلى تشغيل المفاصل المعطلة في التاريخ وفي اللغة والرؤيا والسرد. وهذا ما دعاه إلى أن يتخذ موقفا ثابتا تجاه شكل القصة القصيرة، ويصفها أكثر من مرة. 
وفي أكثر من مناسبة أدبيّة: أن ليس للقصة شكل ثابت، ولا ثمة من يستطيع أن يقترح لها شكلا. كل كاتب يقترح لها شكلا، ولن يكون أي شكل من تلك الأشكال نهائيا، هل يمكن أن نتوقف القصة القصيرة عند حدود ما اقترحه بورخس أو ماركيز مثلا؟ إذا كان ذلك ممكنا، فمن باب أولى أن نتوقف عند حدود ما اقترحه تشيخوف، وأدغار آلان بو، وجاك لندن، وهمنغواي، وشتاينبك، والى آخر
القائمة.
لقد ظل محمود جنداري في تعقب دائم لمسارات التجريب في منجزه القصصي ولم يكن هذا التجريب إلّا تطورا في الرؤى والتقنيات، وهو أمر منشود في الأدب عامة، إذ لا بد من التطور الذي هو طبيعة الحياة والكون المحيط بنا، ولا بد من الاختلاف وتجاوز السائد والمألوف، وبهذا ظل محافظا على تجريبه الذي كان يوليه اهتماما في خضم حاضنته التاريخية، وأيقن بأن ما يعنيه هو التحولات الحياتية وما يرافقها من تحول في الوعي والمفاهيم، فعمد إلى خلخلة المعايير الثابتة والذوق السائد في كتابات تعي شروط الإبداع
والإمتاع. 
إنَّ حالات التفاعل مع جماليات تجريبه القصصي من خلال فحص مكوناته وتقنياته، وتأشير حالات الابتكار والتجاوز قد أدركها جنداري منذ البداية، مما جعله يطرح سؤالا في غاية الأهمية يتعلق بالنتاج الأول للقاص: (ماذا يفعل كاتب شاب ليس محترفا ولا متمرسا عندما ينوي كتابة عمل رواية أو قصة يريد لها مسبقا أن تسحب الضوء أو بعضا منه في فرصة تصنعها بنفسها مثلا مئات الروايات والقصص؟ لا بد من شيء
جديد.. 
هذا هو الجواب لا بد من شيء جديد وشكل جديد وطريقة جديدة على الأقل في اتجاه أو بعض اتجاه من اتجاهاتها الفنية التي تبشّر بمصداقية هذا التوجه بما فيه من جديد لاكتساب الهوية المميزة، لا بد من الكتابة بطريقة جديدة).
وهذا يمثل بداية الدخول إلى مناطق التجريب القصصي الذي يعتمد رؤيا ووعيا جديدين، فضلا عن ابتداع عوالم تخيلية أكثر التباسا وثراء باتجاه الاختلاف، الذي يشكل فاعلية أدق في مثل هذه التحولات، التي تعد فعلا مختلفا داخل مفهوم النوع القصصي القصير السائد، فالبحث عن الممكنات القصصية ورهاناتها التجريبية يعدّ بداية الانزياح عن المعايير الثابتة إن لم نقل انهيارها كليا. وتبعا لما تقدم أسس القاص جنداري نصوصه المغايرة لتكون نقطة انطلاق لمغايرة أكثر، وهذا هو ديدن
التجريب. 
وربما يتساءل أحدنا فيقول: أليست القصة العربية القصيرة بطبيعتها قصة تجريبية نشأت منقطعة عن تراثها السردي (الحكاية) ونهضت أسئلتها الإبداعية والنقدية تزامنا مع التجديد والتجاوز الغربيين؟ وتأتي الإجابة بأننا لا نستطيع الركون عند وجهة النظر هذه، فإذا كانت القصة القصيرة قد استقرت في زمن ما، وساد فيها الأنموذج الموبساني بمكوناته التقليدية، فإنها منذ المشهد الستيني وحتى يومنا هذا نراها ما زالت تمارس تحولاتها بشكل يوازي التحولات في الواقع المعيش.
تمارس انوجادها التجريبي بوصفه ضرورة كتابية حداثية تبحث عن فضاء بكر لترتاده، وأسئلة مقلقة لتطرحها، فالقص التجريبي هو خرق لكسل العقل والروح، ومغامرة تصادر كل تلقين يستجدي ويكرر ويجتر الثوابت، ويحتمي بها خوفا من سطوة المغايرة
والمغادرة.