القطع على نيّة التجييل العقديّ

ثقافة 2022/07/23
...

 د. نادية هناوي 
 
الانقطاع بين الأجيال لا حقيقة له، وإن وجد فهو لعبة تحركها أيدي الفاعلين ذوي السلطة الذين يصورون الأمور بانطباعية وبمقاسات وأحكام تفهم بأنها واقعية وعامة ولا شخصية، بينما هي في الحقيقة مقاسات انفعالية ورؤى فردية قد تكون عواقبها سيئة تخلط الحابل بالنابل والمعلوم باللا معلوم بدعوى الموضوعية ومزاعم تحري الصدق والبحث عن التنظيم.
والفرق كبير بين القول بالانقطاع الجيلي والوعي بالتأثير في الجيل. فالقول بالانقطاع يعني أن المرء يشعر بوجوده في خارج ذاته، اعتمادا على الجيل الذي ينتمي إليه وفيه يستطيع ان يمارس قوته ومن دون الجيل لا تكون للمرء أية قيمة. بينما الوعي بالجيل يعني أن المرء يدرك داخليا أن الذي سبقه أثّر فيه وأن الذي يليه سيتأثر به، وأن هذا التأثير هو القوة التي تشع خارج الجيل فتراه الاجيال الأخرى وتشعر بأثره.
ومن حسن الحظ أن ما يبحث عنه الدارسون في تاريخ الأجيال الأدبية، ليس قوة انقطاعها عما سبقها ولحقها، بل هو وعيها بالانقطاع الذي يجعل التواصل مفترضا وأمرا طبيعيا بين السابق واللاحق.. ولكن ماذا لو تصادف وجود الوعي بالجيل مع وجود القوة في القول بالانقطاع، فهل يتغير التحصيل الجيلي كميا أو نوعيا؟ 
لا مناص من القول إن الشعور بالقوة ليس كالشعور بالوعي وفضائل الوعي هي غير فضائل القوة، وكلما اتسع مجال الإدراك وكانت الظروف مواتية للتفكير فيه، غدا التجييل ضروريا عبر التحريض مثلا على الحداثة وعندذاك يتوكد التواصل اغتناء وتوسعا.
لكن أشنع ما ينتهي إليه التجييل هو القول بالانقطاع بين الأجيال الشعرية لأجل أن تتوكد قوة الجيل الحالي بدعوى أنه هو المجدد والمبتكر وأن الجيل السابق هو القديم والمتحجر.
والشناعة في القول بانقطاع الجيل الشعري تعني أن القصيدة فعل مجاني ومغامرة غير محسوب لها بالتقاليد ولا دور يترتب على ممارستها. وما من غرابة في أن ينم هذا الفهم عن تجاهل لقوانين الشعر التي توجب وجود تفاوت بين الشعراء تبعا لطبيعة مواهبهم والظروف المحيطة بهم وطريقة تمثلهم شعر من سبقهم وقدرتهم على تجاوزهم أو مجاورتهم. وسواء تفاوت الشعراء بالتجاوز أو بالتجاور فإن المحاكاة تبقى هي النظرية التي لا مناص لمن يؤمن بالجيلية من أخذها بنظر الاعتبار.
فالجيلية نضج وليست مراهقة وهي وحي إلهام ومحض بناء يترسخ في شكل تقاليد تفرز شيئا فشيئا وبتدرج تاريخي كي تكون النقلة أكيدة من حال شعري إلى حال آخر فكرا وممارسة، وبلا إفراط في الحماسة ولا انغماس في التوهم والاختلاق.. وليست الجيلية مجرد حماسة شبابية لإدانة الكبار ولا هي زعيق في وضح النهار لاستجلاب الأنظار، ولا هي مكابرة بها يفرض المتكابر نفسه مصغرا غيره. وبنظرة مدققة في أساليب وأحوال تفنن بعض الستينيين في ممارستها ستقود إلى تخطئة فهم الجيلية على أنها انقطاع.
ولعل أوضح الأمثلة على هذا الفهم الخاطئ للجيلية على صعيدي السابق واللاحق، تلك المحافظة التي حملت ناقدا مثل «فورد» على القول بالانقطاع في الفن الفكتوري، خوفا من أن يتناقض الفهم الأخلاقي مع العملية الفنية، ومن ثم قلل من أهمية تجارب حداثية بأنانية وفردانية كتجربة الروائية جورج اليوت بدعوى أنها هونت خطورة الخطيئة وعواقبها، ومن ثم كان نجاحها سهل المنال ــ بحسب فورد ــ وما قال «باوند» بانقطاع جماعة الشعراء عن غيرهم إلا لخوفه من الشعر الجديد التصويري، بينما كانت حماسة ت . س. اليوت للحداثة قد أباحت له القول بالانقطاع بدعوى الحرية حيال الأشكال الشعرية الموروثة.
ولقد رفض كثير من النقاد والمثقفين العرب ترويج شعراء الحداثة للقطيعة، فمثلا شخّص المفكر «حسين مروة» القطيعة كظاهرة جديدة وخطيرة في الشعر العربي الحديث، صارت تبسط نفوذها لا على المواهب الشعرية الفتية والناشئة والمتبرعمة حسب، بل على النقاد وحركة النقد الأدبي بجملتها مما يمثله أبرز شعراء الحداثة من الذين يدعون إلى( الانفصام عن الينابيع الأصيلة في حياتنا العربية وعن الشرايين التي تمنحه الحياة والحركة في أرضنا، ومن أسف عميق أن اذكر من بين هؤلاء شعراء نقدر مواهبهم ونحب أشخاصهم أمثال صلاح عبد الصبور في أشعاره الأخيرة، وأدونيس في ديوانه الأخير كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار، وخليل حاوي في بيادر الجوع وعبد الوهاب البياتي في كثير من شعره الجديد)، وانتقد مروة أيضا نقاد الشعر العربي الذي صاروا يحاولون توجيه الشعراء وجهة الرؤيا دون الرؤية ووجهة الإبحار مع الأحلام كيفما اتجهت أشرعتها الأسطورية، فاصلين بين دور الشاعر الإبداعي ودوره الاجتماعي مع أن الثقافة العربية ما عرفت يوما فصلا بين الفكر والحس، بل إن هذه الرؤية الانفصامية عند الناقد العربي هي خيبة ونكوص تدللان على تخليه عن أداء مسؤوليته الجمالية والواقعية.
لقد تركزت النية في القول بقوة الانقطاع عند من راهن على التجييل الستيني، في أربعة أعوام أو خمسة من 1964 أو 1965 إلى عام 1969 . وهذه النصفية أو الجزئية التي صورت على أنها كلية هو تطبيق عملي لقوة القول بانقطاع الجيل الستيني ـ مع تحرزنا من التسمية ـ  خلال هذه المدة القصيرة التي هي ليست بالمرحلة ولا بالعهد ولا بالحقبة.
وصحيح أن هذه السنوات القليلة كانت مضطربة سياسيا ومضطرمة ثقافيا ومتقلبة فكريا وكانت كالقدر المغلي تفور بكل ما هو غير ممكن أو غير متوقع، فتبدلت فيها السلطة مرتين وتعرضت مصائر كثير من المثقفين الادباء والسياسيين والناس الاعتياديين الى مظاهر التعسف والاضطهاد فكانوا في السجون او المنافي او في بطالة وتسكع في المقاهي والحانات وتطرف بعضهم باتجاه الكفاح المسلح والقناعات الجديدة عالميا بتأثير كتابات دوبريه والتجربة الجيفارية والافكار الوجودية ومظاهرها في العبث واللامبالاة واللالتزام، وربما كان ذلك كله بشكل واه وغير عميق بفعل المد الناصري وسرعان ما هبط. ومن ثم يكون ممكنا تعميم أثر كل ذلك على سنوات الستينيات الأخرى، ولكن ذلك لا يغير من واقع الحال شيئا أولا لأنها سنوات قليلة، وإذا كان لها أن تترك أثرا في ما بعدها فان من غير المعقول ألا يترك الجيل الذي قبلها أثرا فيها، وثانيا أن ما من نظرية من نظريات الاجيال تؤيد هذا التعميم، بدءا من نظريات سانت بيف وهيبوليت تين التاريخية وانتهاء بنظرية جوليا كرسيفيا حول الأجيال الثقافية.
وثالثا أن كثرة التضادات والمفارقات التي غمرت هذه السنوات القليلة، تجعلنا أمام قضية جديرة بالفحص وهي أن التاريخ الأدبي يحتاج بالضرورة فرزا وغربلة وإعادة اختبار لمحصلاته ومقولاته، كي نعرف ما دُس فيه من أسماء ليست ذات قيمة إبداعية وما وُضع فيه من أدلة عُدت وثائق وهي ليست كذلك أو ما أُهملت فيه من أسماء وأحداث أو ذكرت بشكل عرضي وبلا تدليل أو توثيق. ولعل وقوفنا على تاريخية هذه السنوات سيقلل من الصورة الابهارية التي رُسمت لها أو لعله يظهر خفايا أخرى من ذلك
الإبهار.
وبالطبع تكون الأولوية في فحص التاريخ الأدبي لمن كتب صفحاته، والذين كتبوا صفحات هذه السنوات القليلة هم الشعراء المنظرون للجيلية من خلال كتب ألفوها تخصيصا في التجييل العقدي، وهي وإن اختلفت في درجة التحقيق التاريخي وتأثير الحماسة العاطفية ودرجة التمتع بالأدوات النقدية، فإنها تظل في قولها بالانقطاع الجيلي عاكسة صورة تاريخية غير دقيقة بغض النظر عن وجهة نظر كتّابها الشعراء وبعضهم كان شاعرا ناقدا حلل تجارب غيره الشعرية، ومنهم من كان شاعرا كاتبا سرد سيريا تجربته الذاتية في الشعر، ومنهم من دمج الشعر بالنقد والسرد، فنقد شعره وبين أفضال تجربته وربما لا أفضالها.