الجزالةُ معياراً شعريّاً

ثقافة 2022/07/23
...

 محمد صابر عبيد
ينطلق مصطلح «الجزالة» في النقد العربيّ القديم من فضاء المعنى اللغوي المتمركز حول الذات لهذا الدال في دلالته على القوة والمتانة والقطع، وحين انفتح المفهوم على عالم الشعر صار يعني ما يعنيه من تشدد وتقعر وتعقيدٍ اعتماداً على المرجع الدلاليّ اللغويّ المقيّد بالفصاحة والبلاغة، وأصبح فيما بعد معياراً شديد التعصب لوصف الشعر الجيّد؛ استناداً إلى مدى استجابة القصيدة لمعنى المتانة اللغوية وفصاحتها وبلاغتها، وكأن ذلك يمثل لديهم الشعرية المطلوبة لإجازة القول بصحة انتمائه إلى الفن الشعري وانتساب صاحبه إلى قبيلة الشعراء.
 ولهجَ النقّاد التقليديون والدارسون الكلاسيكيّون بهذا المصطلح وتشبّثوا بمعطياته إلى درجة التقديس، حتّى صارت مفردة «الجزالة» لازمةً نقديّةً يستخدمها كلّ من يحاول أن يعاين قصيدةً أو يصف شعريّتها؛ على أساس أنّها الحدّ الفاصل بين الشعر واللا شعر.
طالت ثورة الحداثة أولاً هذا المصطلح ودحرته؛ وأنزلت اللغة الشعريّة من هذا البرج المرتفع أعلى كثيراً من سقف الذائقة الحرّة، ولعلّ جوهر الفعل الحداثيّ في هذه الثورة يتركّز حول إنقاذ الشعر من فتوى هذا المصطلح التي أوقفَت القصيدة العربيّة في سجن انفراديّ، وحوّلت الكلام الشعريّ إلى قول ملتزم بأكاديميّة المسطرة البيانيّة القائمة على بهاء اللفظة وهالتها وفخامتها وسطوتها الإيقاعيّة، وقد فُرِّغَ من طاقته الشعريّة وحساسيّته النوعيّة الوجدانيّة في اتّصالها بأفق التجربة المزدان بخضرة الشجر، وغناء الطيور، وتموّج الهواء، وطرافة التراب المبلّل بالمطر، وغنج الألوان، والتماعات الحبّ التي تتردّد بموسيقى تُطرِبُ كلّ من يصغي لها بلا حدود وبلا تعقيد وبلا شروط. يمكن لنا إذا ما عدنا إلى طبيعة الصراع التقليديّ المعروف نظريّاً بين النظم والشعر على المستوى الاصطلاحيّ والمفهوميّ أن نعاين الجزالة بوصفها قرينة النَظم، وهي على هذا النحو تكون ضدّ شعريّة الشعر في سياق انهماك أدواتها بفخامة التعبير في منطقه الفوقيّ، وإهمال سيولة التعبير المحتشدة بطاقة الحساسيّة المرهفة الخاصّة بالتجربة وما ينطوي عليها من خصوصيّات تعبيرية تنشغل بالفضاء اللغويّ العام لا اللفظ اللغويّ الخاصّ، لأنّ شعريّة الشعر لا تحتاج مطلقاً جزالة اللفظ المقترنة بالمرجع اللغويّ بل باللحظة الشعريّة الفارقة، ويتطّلبُ ذلك انتماء الشاعر في طاقته التعبيريّة والتشكيليّة إلى حيوية اللحظة الشعريّة؛ ضمن حركيّة التوغّل في طراوة التجربة بزخمها الوجدانيّ والعاطفيّ والانفعاليّ الفريد. الجزالة صفة شعريّة بعينٍ واحدةٍ لا ترى أبعد من دائرتها الضيّقة القاسية؛ بينما القصيدة كائن فريد بثلاثة عيون ترى في العين الثالثة الإضافية ما لا تراه العينان التقليديّتان داخل المدى الطبيعيّ المتاح للرؤية، فالمحيط الذي تتحرّك فيه الجزالة -ولا سيّما حين يبالغ مريدوها في تصوّر ترفّعها ووهمها- ضيّق جداً؛ لا بل هي أصلاً تقشّر طبقات هذه المحيط كي تصل إلى حيّز شديد الضيق يكاد يطبق عليها ويحرمها من التنفّس بحريّة، في اعتقاد سالب منها أنّ الطبقات الأخرى الأبعد عن جسدها المتخشّب قد تسهم في تمييع صلابة دوالّها وقسوتها واكتئابها، داخل معادلة تراهن على الصفاء المطلق لكنّها تقع حتماً في الخواء المطلق، من دون أن ترى ذاتها وقد استسلمت للفراغ وبقيت وحيدة في أرض لا يمكث فيها غيرها.
تعدّ الجزالة داخل هذا المفهوم قرينة الافتعال الدائم خارج الحاجة، والسعي إلى تحميل المعنى الشعريّ فوق ما يحتمل بلا مراعاة لجوهر اللغة وطراوتها، فثّمة عناية قصوى بالصورة الشكليّة المجرّدة للفظة وهيبتها اللغويّة وكلاسيكيّة نظامها اللسانيّ الشائك، على النحو الذي يجعل انشغال الشاعر بالاحتفاء بها منعكساً على جماليّات التعبير الشعريّ التي ينبغي أن ترهف سمعها للتجربة بحيويّتها، وفطرتها، وعفويّتها، وفرادتها، فتعيق هذه العناية الشديدة بجزالة اللفظ كثيراً من تجلّي الطراوة الشعريّة المطلوبة لصوغ قصيدة يمكن أن تؤثّر عميقاً في وسط التلقّي.
ينطوي المفهوم الشديد للجزالة على اقتصاد كبير في الديناميّة والمرونة والاعتراف بالآخر، لذا فهي قليلة الماء كثيرة الحطب في تكوينها الأساس القائم على فكرة الغرور اللغويّ والترفّع اللفظيّ، حتّى لتبدو في أحيان ليست قليلة وكأنّها تشتغل خارج المجال الجماليّ الطبيعيّ المؤنسن لحركيّة الدوال التي تُشيّد الفضاء النصيّ، ولا شكّ في أنّ مثل هذا التعالي اللغويّ سرعان ما يصل إلى طبقة الغربة فتتقطّع أوصال التفاعل مع حرارة المرجع الثقافيّ للغة، وتتلكأُ سبل التلقّي والتداول المطلوب لتنكفئ الدوال على فراغ دلاليّ بلا ماء، يكون قابلاً للتكلّس والقطيعة والاندثار داخل رداء يتبدّى جميلاً من الخارج لكنّه لا أثر لحياةٍ ما تشعّ داخله.
تمثّل مغادرة مصطلح «الجزالة» وهجره وعزله خارج دائرة الشعريّة الخطوةَ الأولى للاقتراب من فضاء الشعر الحقيقيّ، فحضور هذا المصطلح في الممارسة الشعريّة الحديثة يشكّل عبئاً كبيراً صار اليوم من كلاسيكيّات القصيدة العربيّة القديمة، فقصيدة الحداثة تذهب إلى أقصى البساطة وأقصى الهامش وأقصى المهمل وأقصى الثانويّ؛ لتضخّها بطاقة شعريّة هائلة ترفعها إلى مقام الشعر، حيث تتجلّى اللغة الشعريّة بعيداً عن المظهر وقريباً من الجوهر كي تفعل فعلها في فتح التجربة الشعريّة على آفاق لا حدود لها، إذ تتحرّك أدوات اللغة بأعلى كفاءتها وحيويّتها وطرافتها لتملأ شرايين القصيدة بما تحتاجه من دماء صافية حارّة، تبعث الحياة في نسق التواصل والتداخل والتداول الحيّ بين النص والقارئ في التحام عشقيّ لا يمكن فهمه بسهولة.